عبد الغفار العطوي
جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) من الفلاسفة الغربيين المعاصرين، الذي ارتبط اسمه بمفهوم ما بعد الحداثة، ليس في فرنسا بلده، بل اشتهر في أنحاء العالم، مثلما عرف بمناداته بسقوط السرديات الكبرى، وعد من رواد حركة الطلبة في باريس عام 1968من الفلاسفة. والفيلسوف الفرنسي المعاصر أيضاً جيل دولوز(1925-1995) الذي اختط له مساراً في الفلسفة يختلف كثيراً عن فلسفة بلده وعصره.
ونحن نفتقر لفهم ما تناوله في نصوصه الفلسفية، لقلة ترجمات كتبه المتيسرة في العربية، وهو أيضاً، أراد طرح الفلسفة من وجهة نظر مغايرة كما فعل ليوتار، ثمة روابط جمعتهما معاً مختلفة، لكنهما كانا يصبان في رافد واحد مهم، يتمثل بالخروج عن المألوف في التناول الفلسفي، وفي عدم الاعتراف بجدوى الفلسفة بذاتها، بما تؤديه في حياتنا. وفي كتابيهما "لماذا نتفلسف؟" للأول، و"خارج الفلسفة" للثاني نفهم الشهرة التي كسباها في أهم منعطف فكري وثقافي وفلسفي من المنعطفات المعاصرة التي فجرت مفهوم "ما بعد الحداثة"، جان فرانسوا ليوتار عزي إليه، إدخاله لهذا المفهوم المحير، كما سلط الضوء على تأثير دولوز على نظرة ليوتار في نفوره من أن يضع الفلسفة داخل معترك الرغبة في التناول الفلسفي، بما يعني أن تكون فلسفته بعيدة عن الكلام، أي في الخطاب - المجاز، وإذا ما كان ليوتار قد حلل نظرته النقدية في فلسفة نيتشه وماركس وفرويد، في ما يناسب الرغبة في التفلسف، فإن رغبة دولوز قد صوبت فلسفة فوكو وبلانشو معاً، من كونها تكمن خارج مظلة الفلسفة، وهي رغبة نيتشوية أيضاً. وربما شكلا تهديداً مرناً في دراما "موت الفلسفة" التي أثارها العالم الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفن هوكينج في كتابه "التصميم العظيم" وصدم العالم، وأوقعه في حيرة، من حيث أراد الفلاسفة إنقاذ الموقف الذي أوقع العالم فيه، فقالوا إن المقصود بموت الفلسفة هنا هو موت دور الفلسفة في تفسير الكون المادي والظواهر الطبيعية بعد قيام العلم بهذه المهمة نيابة عنها، وحقق ما لم تستطع الفلسفة تحقيقه وراحت الفلسفة تتراجع وتحل محلها الابستمولوجيا باعتبارها منهجاً نقدياً تستطيع كمقاربة أن تعترض كل ما ينتجه العقل البشري من شتى العلوم. لكن شذوذ فلسفة الرجلين ليوتار ودولوز، كان ثمة لها ما يبررها، من ناحية أنهما تناولا الفلسفة من الفعل البراني للتفلسف، قدم ليوتار أولاً كتاب "لماذا نتفلسف 1964"، وهو عبارة عن مخطوط لطلبة الإعدادية قام ليوتار بتدريسه في جامعة السوربون، ويتكون من أربع محاضرات في الفلسفة قرأها على طلبته في الجامعة، وجاءت تحت هذا العنوان "لماذا نتفلسف؟" والمحاضرات هي: "لماذا نرغب؟ الفلسفة والأصل في الكلام الفلسفي، في الفلسفة والفعل". وقدمها كورين أنودو الذي يرجع له الفضل في معرفة مغزى ما حاول ليوتار قوله في هذه المحاضرات المختزلة التي وضعها ليوتار لكي يبرهن أن الفلسفة تعاني من الموت البطيء في عصرنا، وإن علينا البحث عن ما يعيد لها الحياة بأية طريقة من الطرق، وهي الطريقة نفسها التي اقترحها دولوز في فلسفته التي تناولت الأضداد من منفرات الحقائق. وما نقرأه من منتخبات نصوصه لتوقفنا على حقيقة فلسفته التي ابتدأها بالوقوف لجنب نيتشه، لكن ليوتار ظل أسبق في ما حرض عليه في فلسفته، في أن تكون الرغبة في القول الفلسفي ثابتة. ونحن نشاهد ذلك يجري على لسان كورين أنودو في ألا ترغب الفلسفة في الحكمة أو في المعرفة، إنها لا تعلمنا لا الحقائق ولا ما يجب أن نلتزم به من سلوك، مجرد، أن نقرأ الفلسفة فإننا نعي أن التفلسف عبارة عن الرغبة في الفصل بين الكلام الحقيقي والفعل الفلسفي. ويعلق كورين أنودو أن كل كتاب من كتب ليوتار مستقل بموضوعه وبأسلوبه، ومتميز عن بقية كتبه الأخرى، ولن نستغرب في أن اليقين الذي يحمله من عام 1964 هو بذرة من بذور فلسفته التي لن تكون قابلة في أن تنمو وتدرك تطورها إلا في حالة تركنا لأنفسنا التلبس بالغياب، ووجدنا ضالتنا في عدوى الانتشار، ليتحملها الآخرون في الإصغاء بينما يتفرس دولوز في المفهوم البراني لا الخارجي في التفلسف، ليعترف إلى أنه ينتمي إلى جيل أو أحد الأجيال أنهكت تاريخاً للفلسفة يمارس تاريخ الفلسفة، وعلى الفلسفة أن تلعب دوراً قمعياً لا يحتاج إلى دليل. ولعل الفلسفة التي تأثر بها ليوتار هي الفلسفة نفسها التي وضعت دولوز على سكة الغرابة، ومن ثم حملته خارج النسق أو الفعل الفلسفي المؤثر، فالقراءة الممتعة في كتاب دولوز "خارج الفلسفة" هي بالضبط ما ذهب إليه تشارلي هوينمان اليكس سوجنج كيم بانج وآخرون في "موت الفلسفة" من إعادة الاعتبار لدور الفلسفة في رؤية العالم المنفلت من قبضة العلم والعقل نحو رحابة الايمان. أنظر لدولوز في كتابه "ضد الاوديب" كيف يحقق في فلسفة لم تعد قادرة على تحقيق الرغبة لدى الإنسان في أن يحيا خارج القطيع "كلمتي هنا" فما بالنا لا نرغب كما لوح ليوتار في الطريقة التي اعتمدها في تدريسه وتعليمه للطلبة والمجتمعين وتتمثل في أنهم لا يتعلمون شيئاً مطلقاً، إذا لم نقل أنهم لا يتعلمون نسيان ما حفظوه، مادامت الرغبة مفقودة في فهم العالم، سواء كان ذلك في الجوهرية "ليوتار" في تمحيص التفلسف، أم كما عارض دولوز فلسفات من كان قبله في البوب فلسفة، وما أنتجه دولوز من وراء متابعة المعنى واللامعنى في فلسفة نيتشه، ذلك الفيلسوف الذي ظل يؤمن به وبفلسفته، وحتى بجنونه منذ عام 1900 كل فلاسفة العالم من دون استثناء الذين أرادوا تصويب تأويلات حقيقة عدمية نيتشه، حينما قاموا بقدح هشيم الفلسفة الميتافيزيقية كانوا أول من تلظى بنيران "موت الفلسفة"، لكن كانت النجاة من نصيب المنشقين من فلسفة الانطولوجيات القديمة: ليوتار، دولوز، بلانشو، فوكو، بطاي، سارتر، ديريدا ، وغيرهم.