كيف تبدو ثقافة المعلم؟

منصة 2024/08/18
...

 أ.د.باسم الأعسم

يعد الأستاذ من بناة الحضارة، بوصفه قدوة تربوية وتعليمية، وأثرا جامعا لكل الخصال الإنسانية الرائعة، أو هكذا يفترض، بحكم دوره وموقعه، 

ووظيفته.

وثمة علاقة قربى وثيقة الصلة بين أضلاع مثلث الوعي "التربية، والتعليم، والثقافة"، وبين المعادلة الثلاثية "المرسل، الرسالة، والمرسل إليه"، إذ لا مناص أن تشاد تلك العلاقة البنيوية ذات الطابع التربوي والتعليمي، على وفق أفضل الصيغ المعرفية، كيما تؤتي ثمارها الثقافية بنحو أكيد وإجراء سليم.

   ويقع العبء الأكبر في المعادلة الثلاثية على المعلم، أو الأستاذ، بغض النظر عن المراحل التعليمية، بوصفه عقلا تنويريا يشع علما وفكرا تطبيقيا، وكلما زخرت مخيلة المعلم بالفكر والعلم، أصبح من أكثر الناس جدلا، ولا خير في الإنسان إذا لم يكن مجادلا، وعلى حد قول الشاعر والمفكر علي الهويريني: "جادل فإنك قد خلقت مجادلا/ إن لم تجادل تستوي 

بالبغل". 

إن العلامة الفارقة للمعلم، أو رجل العلم، هي الثقافة التّخصيصيّة، والثقافة الواسعة، التي تؤهله ليكون رمزا مثقفا ومجادلا بنحو مثير، على الصعد كافة، بما في ذلك الجوانب السلوكيّة، التي تعد وسيلة المعلم الفاعلة في تمتين أواصر الصلة بين المرسل "المعلم" وبين المرسل اليه "الطالب" عبر الرسالة "المنهج"، فالثقافة تقترن بالسلوك القويم، والخلق 

العظيم.

 ومن أخص علامات تفوق المعلم بوصفه أستاذاً، توفره على منجز علمي وثقافي يؤطره سلوك أخلاقي متحضر، يضفي عليه قدراً من الخصوصية المائزة، تجعله في منأى عن التحجر والتقليد، والمراوغة الرتيبة، كما الحال لدى أولئك الذين وصفوا برسل العلم والإنسانية، ورموز المعرفة والثقافة، لكنهم تقليديون، وخاملون، لا يقرؤون، ولا يكتبون، وفي الاختبار يُعرفون، كما قال الإمام علي "عليه 

السلام": "لا يعرف الناس إلا بالاختبار".

  إن ميدان المعلم، ودوره، يقتضيان منه - بالضرورة – أن يكون مختلفاً في سلوكه، وثقافته، بحيث يحقق أسلوبه الخاص به، فالإنسان على حد قول المفكر الفرنسي  بيفون "هو الأسلوب" وقديماً قال الامام علي "عليه السلام": "الإنسان مخبؤ تحت طي لسانه" الذي ينطق بفخامة أدبه وعلمه

وثقافته.

ولعل الأهم، أن يكون المعلم مؤثراً بالآخر بفضل علمه وثقافته، يشارك في المؤتمرات، والندوات، والحلقات الفكرية، ويتألق في محاضراته،  وإذا ما كان استاذاً جامعياً، فأن المهمة تكون أصعب وأعقد، لأنه يتعامل مع عقول يفترض أن تكون عامرة بالوعي والمعرفة والثقافة، يكتب اطروحته بنفسه، ويكون بمثابة موسوعة متحركة، يشرف ويناقش الرسائل 

الجامعيّة.

إن الشهادة لوحدها لا تجعل الأستاذ مثقفاً بل متعلم، والأهم أن يكون مثقفاً يعرف شيئا عن كل شيء، وعن كل شيء شيء، كما عرف المثقف ومن دون ذلك، لا يمكن أن يبلغ العُلا، ويحقق أهداف رسالته 

المقدسة.

ولا يتحقق ذلك، إلا بالانكباب على القراءة التي هي مفتاح العقل، ورياضة الدماغ، لكنها للأسف أضحت هامشيّة لدى أعداد هائلة في الأوساط التعليمية.

في العالم المتحضر، والمتقدم علمياً وثقافياً، يكون الملاك التدريسي في رياض الأطفال من اساتذة اكاديميين مثقفين من الجنسين، يمتلكون مهارات وأفكارا وثقافات  تجعلهم يتعايشون مع الصغار على وفق أساليب تربوية وتعليمية، تسهم في بناء شخصياتهم وتنمية أذواقهم واكتشاف مواهبهم. تلك هي فضيلة الثقافة التي تقترن شرطياً بالوعي والسلوك المتحضر والتفكير المتطور لدى الاستاذ 

المتنور.

ومن حسن حظنا، تتلمذنا على أيد أساتذة مثقفين من الطراز الأول، منذ المراحل التعليمية الأولى وحتى العليا، مما يدعونا ذلك إلى القول إن: الأستاذ المثقف عملة نادرة بحق ومرجع علمي وثقافي وفكري، يلهم الأجيال بفيض علمه وخبراته، ومهاراته، على نقيض الأستاذ الدعّي، المتثاقف، الذي لا تربطه بالمؤسسة سوى 

مصلحته.

الثقافة نعمة وفضيلة، تضع الأستاذ في مصاف العلماء، وبدونها يستحيل الإنسان إلى رقم مجرد، يضر ولا ينفع، وإن المعلم أو الأستاذ الذي لا يعي دوره، ولا يستنهض همته، لبناء مستقبل أمته، يسهم في هدم التعليم، أي بمعنى تحطيم الحضارة التي هي بمجملها من مخرجات الثقافة والعلم 

والفنّ.