برحيل عبوسي.. تموت ضحكة بغداديَّة أصيلة

ثقافة 2024/08/19
...

 بغداد: محمد إسماعيل

صرير أبواب متلاحق، من هولندا الى العراق، طاف بروح الفنان العراقي المغترب، حمودي الحارثي الفنان الذي مات غريباً عن جمهوره العراقي، الذي فارقه جراء ضنك العقوبات الدوليَّة التي فرضتها الأمم المتحدة على شعب العراق طوال التسعينيات وبضعة من الألفينات؛ بسبب غزو صدام دولة الكويت الشقيقة، وقد. أوجر الحصار بالناس وهن الشعب فاستقوى صدام ولم يمسسه سوء. غادر عراقيون لم يستطيعوا تدبر أسباب العيش؛ مهاجرين من عراقٍ محاصرٍ الى فضاءات العالم، ينشدون عيشاً بالحد الأدنى من كرامة إنسانيَّة.

أكاديميون وأدباء وفنانون وأيادٍ ماهرة، تعذرت عليها العودة الى بلدٍ حطه الحصار من علٍ ونخره الفساد.

فآثر معظمهم المكوث في الغربة، مكتفياً بزيارات خاطفة، بعد 9 نيسان 2003 بينهم الراحل الفنان حمودي الحارثي، الذي اشتهر بشخصيَّة عبوسي، صانع الأسطة الحلاق، تلكما الشخصيتان الأنموذجان البغداديان التلقائيان بعذوبة، الأسطة حجي راضي، أداها الفنان الراحل سليم البصري، البغدادي الأصيل.. كردي فيلي من أهالي الصدريَّة.. أباً عن جد، والتصق به لقب البصري؛ لأنه يقضي العطلة الصيفيَّة في بيت شقيقته المتزوجة من "بصراوي".

أما عبوسي.. حمودي الحارثي، فصانعه الشريك الجمالي للبصري في المسلسل الشهير "تحت موسى الحلاق".


لقمة الصياد

قبل استدعاء المتحدثين عن رحيله، والتقاط معلوماتٍ من الويكيبيديا، أسرد قصة صداقة تشرفت بها مع حمودي الحارثي رحمه الله، والتي تدور رحاها في فلك الحصار- العقوبات الدوليَّة، حيث كنا نسترزق من الكتابة للوكالات الأجنبيَّة، من خلال متعهديها في العراق؛ دعماً لرواتبنا التي لا تكفي لشراء طبقة بيض، حيث تعارفنا شخصياً، في استوديو حازم باك، الذي اتخذ منه الراحل رشيد الرماحي، ملتقى لتسلم المواد الصحفيَّة وتوزيع مستحقاتنا فيه.. هناك تعرفت إليه، بعد أنْ كنت.. مثل كل العراقيين والخليجيين أعرفه نجماً تلفزيونياً.

غاب.. مثلما تبددت ذكرى كثيرين.. أطباء وأساتذة جامعيين وسواهما من فئات وشرائح المجتمع المنكوب بالحصار ولم أره ثانية، إلا عندما كلفتني "الصباح" بتغطية مؤتمر المغتربين الذي أقيم في فندق المنصور ميليا، خلال العام 2014 وربما قبل أو بعد ذلك، ولم يتطلب تذكيره طويل وقت عندما ناديته بصوتي المميز الذي أعاده الى عشرين عاماً من الفراق:

- لم يتغير فيك شيء سوى لحيتك السوداء ابيضت يا أبا حيدر.. محمد إسماعيل الحبيب.

دعاني الى غداء.. كباب، لم أتوجه إليها لأنني تلقيت دعوة الى مسكوف من رئيس جمعيَّة الفنانين التشكيليين قاسم سبتي، استأذنته باصطحاب الحارثي، فابتهج.

يومها دلني حمودي الحارثي على لقمة الصياد، هذا السر الذي لا يعرف مكمنه من لذة السمكة سوى البغداديين، وقد أفشاه لجنوبي.. ضاحكين.


طرفا الجمعة

برحيله بداية الجمعة من طرفها الأوروبي، وتلقينا الخبر عند نهاية الطرف الآسيوي من الجمعة ذاتها، تتأكد بركة ولادته في بغداد من أصلٍ أنباري يمتدُّ الى الجد الرابع، كما قال لي شفاهاً.

رثاه نقيب الفنانين مدير عام دائرة السينما والمسرح الدكتور جبار جودي العبودي: "كل نفس ذائقة الموت، تلك حتميَّة وجوديَّة بسطها الرب على عباده، وهو أرحم الراحمين.. لا اعتراض.. حاشى لله.. لكنْ ما يؤسف له هو الرحيل غريباً، ليس حوله سوى عياله، كما لو أنه إنسان عادي وليس فناناً ذا مواهب أسعدت عقوداً من زمن العراقيين ودول الخليج، التي يتوقف السير فيها إبان السبعينيات عندما تعرض حلقات "تحت موسى الحلاق" والناس صباحاً 

تردد:

- ولك عبوسي

- بلي استادي

استادي.. بالدال وليس الذال، كما دأب اللسان البغدادي على لفظها!


بناة أوائل

وواصلت الفنانة فاطمة الربيعي: كان إنساناً يتقن المحبة بين زملائه.. لا يمثل، بل يؤدي بصدق، أمام الكاميرا كما هو في الحياة اليوميَّة، متابعة: "تغمده الله برحمة السعادة التي حققها لمشاهدي (تحت موسى الحلاق) يرحمه ويرحم مؤلف وبطل المسلسل الفنان سليم البصري، أستاذه في التمثيل وأبوه الروحي في الحياة".

وقالت الفنانة إيناس طالب: "رحم الله حمودي الحارثي، وأعاد علينا ظل عافية المرحلة الفكريَّة الناضجة التي أثمرت جيل حمودي الحارثي، الذي يقدم نكهة البساطة التلقائيَّة في فنٍ راقٍ سهلٍ ممتنعٍ"، مؤكدة: "نتلقاه إرثاً فنياً وثقافياً وحضارياً، يوثق لبغداد الستينيات والسبعينيات، من خلال (تحت موسى الحلاق) قبل أنْ تدمرها المعتقلات والحروب والحصارات والفساد".

وأضاف الفنان طه علوان: "يشكل حمودي الحارثي، آخر ما تزامن مع جيل الرواد، البناة الأوائل الذين غرسوا بذرة أولى تفتحت فأشرق عبوسي وأعمالٌ وشخصياتٌ دراميَّة من صنع خيالٍ خصبٍ، كالذي تمتع به سليم البصري مؤلفاً وممثلاً لـ (تحت موسى الحلاق)"، لافتاً: "ستظل الأجيال الفنيَّة اللاحقة على الرواد وما بعدهم ممَّن شقوا طريق الوعي، على قطعة المستقيم الفاصلة بين من كانوا يعتبرون الفن (عيب) ومن يفخرون به الآن.. كم بذلوا من جهدٍ بأناة وتأملٍ كي ينعطفوا برؤى المجتمع وقناعاته من العيب الى المفخرة".


مكان شاغر

وأفاد رئيس اتحاد الإذاعيين والتلفزيونيين مظفر سلمان الطائي: "أخرجت له مسلسلات إذاعيَّة عدة، كان خلالها مثال الفنان الملتزم، المتمكن من موهبته، بحيث يترجم ملاحظات المخرج الى أداء، 

منوهاً: "لم تحسن المنظومة الفنيَّة العراقيَّة استثمار موهبته الدراميَّة، فكانت بدايته (تحت موسى الحلاق) هي نهايته نفسها".

وأشار المخرج الدكتور علي حنون: "كل واحدٍ من جيل حمودي الحارثي، لا يجود الفن العراقي بمثل أدائه في كل يوم، نحتاج عقوداً كي نجد مثل هؤلاء الذين تزخر بهم الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ثم انفلتت المعايير".

مبيناً: "أتمنى على الأجيال اللاحقة أنْ تستفيدَ من الحاضنة الفكريَّة في فلسفة الفن؛ لتبلغ ما بلغوه في تلفزيون أسود وأبيض.. يبث من السادسة عصراً الى الثانية عشرة قبل منتصف الليل.. أرضي.. وليس كل 

عائلة تمتلك جهاز تلفزيون.. القطاع قاطبة يتوزع بين خمس الى ست أسر لديها تلفزيون.. أما الملون فأكبر من أحلام الفقراء، بينما الجيل الحالي، يتمتع برفاه الفضائيات وسرعة الانتشار على السوشيال 

ميديا".

وأوضح السيناريست الدكتور صباح عطوان: "جيلٌ لن يتكرر؛ لأنَّ الظروف التي تضافرت على تشكيله لم تعد لها مقومات في الحاضر؛ لذلك كلما مات أو اعتزل واحدٌ من مؤسسي اللبنات الأولى، يظلُّ مكانه شاغراً"، ذاكراً: "شكل حمودي الحارثي - رحمه الله ظاهرة - على مدى ثلاثة عقود من السنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، من خلال إتقانه أداء شخصيَّة الصانع.. الصبي، بالمواصفات البغداديَّة الأصيلة.. صبي بغدادي قح، يعيش في كنف (أستاده) أسطة الحلاقة حجي راضي.. الفنان الراحل والتربوي الملتزم سليم البصري.. أعطى صورة الشاب المستلب الذي لا ينفك عن المشاغبة برغم كونه مسكيناً فعلاً".


سيرة غائبة

بعد الرحيل لا جدوى من الذاكرة؛ لأنها تتحول الى ألمٍ ممضٍ 

لا يمكن دفعه تصحيحاً إلا بالذهاب الى مات، وهذا ممكن شعرياً وسينمائياً وقصصياً، لكنه في الواقع 

محال.

ولد حمودي في بغداد يوم 7 تموز 1936 وتوفي في هولندا 17 آب 2024 قاطعاً ثمانية وثمانين عاماً من الحيويَّة التي لم تتكاسل، حتى طالته يد المنون راحلاً الى رحاب 

البارئ.

وهو من أبناء الكرخ.. باب السيف في بغداد، تعلم النجارة وهو في السادسة من عمره على يد أخيه الذي ورث المهنة عن أبيه الملقب بـ"نجار الأئمة" لصنعه أبواب وشبابيك للأضرحة في الكاظميَّة وسامراء وكربلاء والروضة القادريَّة.

ما زال يستثمر حرفة النجارة في فن النحت، حيث دخل قسم التشكيل في معهد الفنون الجميلة، مع الفنانين جواد سليم وفائق حسن، وما لبث أن غادر قسم النحت والرسم متفرغاً للتمثيل والإخراج من العام 1958 ولغاية عام 1961، ومن ثم درس الفن والإخراج السينمائي لمدة عامين في فرنسا (1964 - 1965) وبعدها درس الفن والتمثيل السينمائي من العام (1974- 1981) في جامعة القاهرة، وهو عضو جمعيَّة التشكيليين العراقيين.

أدى أدواراً كوميديَّة حققت لهُ شهرة كبيرة، أبرزها شخصيَّة (عبوسي) في مسلسل (تحت موسى

الحلاق).

شارك في أعمالٍ مسرحيَّة ومسلسلات وتمثيليات.. منها: حياة العظماء، ومع الخالدين، وكاريكاتير، وإلى من يهمه الأمر، وشارك في خمسمئة عمل إذاعي وتلفزيوني وأخرج برامج تلفازيونيَّة.. العلم للجميع، إعداد وتقديم كامل الدباغ والرياضة في اسبوع، إعداد وتقديم مؤيد 

البدري.

تزوج من مخرجة مسرح الأطفال منتهى محمد رحيم.. توفيت عنه في هولندا عام 2015 أقام في هولندا خمسة عشر معرضاً للنحت توزعت بين المدن الهولنديَّة والسويد والدنمارك وألمانيا.