(الحسين ثائراً .. الحسين شهيداً)

ثقافة 2024/08/21
...

أ.د. حسين علي هارف

حين كتب العربي المصري عبد الرحمن الشرقاوي مسرحيتيه (الحسين ثائراً) و(الحسين شهيداً) أواخر الستينيات من القرن الماضي، لم يجرؤ أحدٌ من المخرجين المسرحيين المصريين ولا العرب حتى، التصدي لها وإخراجها وتقديمها على خشبة المسرح لعوامل عديدة ترتبط بالمحظورات الرقابيَّة الدينيَّة منها والسياسيَّة، حتى بادر المخرج المصري الطموح والشجاع والعائد من دراسته من إيطاليا إلى الإعلان عن رغبته بإخراجها.

وقد تمَّ ترشيح الممثل المسرحي المتمكن عبد الله غيث لتجسيد دور الإمام الحسين (ع)، وفعلاً كان المخرج كرم مطاوع قد أجرى بعضَ البروڤات مع الممثل عبد الله غيث وباقي فريق العرض من كبار الممثلين ومنهم الممثلة العملاقة أمينة رزق ويوسف وهبي وفردوس عبد الحميد الذين انخرطوا في التدريبات على المسرحيَّة لأسابيع معدودة.
جوبه طلب كرم مطاوع بالرفض معللين ذلك بعدم جواز تجسيد العشرة المبشرين بالجنة وآل البيت (ع) على المسرح، ما ولّد جفاءً وخصومة بين شيخ الأزهر آنذاك عبد الحليم مسعود والكاتب عبد الرحمن الشرقاوي الذي كان حلم حياته - كما كان يصرّح دائماً وعائلته من بعده - أنْ يرى هذه المسرحيَّة على خشبة المسرح.
كتب الشرقاوي مسرحيتيه (المنفصلتين المتصلتين) متأثراً بهزيمة حزيران (نكسة ١٩٦٧) وتعبيراً عن الشعور الجمعي العام بالظلم ومرارة الهزيمة العربيَّة أمام الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين العربيَّة.
يقول الشرقاوي في مقدمة كتابه (الحسين ثائراً.. شهيداً) وفي إهدائه الذي افتتح به الكتاب (إلى ذكرى أمي أهدي مسرحيتي الحسين ثائراً الحسين شهيداً.. لقد حاولت من خلالهما أنْ أقدّم للقارئ والمشاهد المسرحي فيه روح بطولة عرفها التاريخ الإنساني كله من دون أنْ أتورط في تسجيل التاريخ بشخوصه وتفاصيله التي لا أملك أنْ أقطع فيها بيقين. الى ذكرى أمي التي علمتني منذ طفولتي أنْ أحبَّ الحسين، ذلك الحب الحزين الذي يخالطه أغلب الإعجاب والإكبار والشجن ويثير في النفس أسىً غامضاً وحنيناً الى العدل والحريَّة والإخاء وأحلام الخلاص).
ومن الواضح أنَّ عبد الرحمن الشرقاوي كان قد تأثّر بولع أمّه بشخصيَّة الإمام الحسين (ع) وكثرة زياراتها لمسجد الإمام ودعائها وتوسلاتها ضمن طقوس الزيارة، فتولدت لديه مشاعر خاصَّة تجاه هذه الشخصيَّة وتعلقاً بها فعاشت في وجدانه وباتت عنده رمزاً متفرداً للنضال وللتضحية والثبات على المبدأ.
بدوره كان المخرج المصري كرم مطاوع متأثراً بزيارة قام بها سنة ١٩٧٠ لكربلاء قد شرع في إعداد مسرحيَّة (ثأر الله) بقسميها بعد أنْ تمَّ دمج الجزأين معاً، وشرع في إجراء التدريبات تمهيداً لعرضها بعد إجازتها من قبل الجهات المختصة.
ويذكر بعض الفنانين أنَّ المخرج كان قد دعا بعض الفنانين والمثقفين لمشاهدة المسرحيَّة قبل عرضها، لكنه فوجئ مع الآخرين بمنع العرض! فكيف يمكن تجسيد شخصيات الحسين (ع) والسيدة زينب (ع) والصحابة على خشبة المسرح؟ كان هذا هو الرد والموقف!. لكن المخرج كرم مطاوع لم يستسلم وطرح حلاًّ بديلاً ليُسقط الحجة، إذ إقترح أنْ يحوّل دور الحسين (ع) الى دور الراوي الذي سينوبُ عن شخصيَّة الحسين حواراً، على طريقة يقولُ الحسين كذا وكذا (وهذا ما حدث لاحقاً في معالجة أمر ظهور شخصيَّة الرسول الأكرم محمد (ص) في فيلم الرسالة)، لكنَّ هذا الاقتراح لم يلقَ قبولاً وجوبه برفضٍ باتٍ من قِبل شيخ الأزهر وتلامذته، وهكذا تحقق المنع والقمع.
بعد رحيل عبد الرحمن الشرقاوي ١٩٨٧ ومن بعده كرم مطاوع ١٩٩٦، أُغلق ملف (ثأر الله) بانتظار من يُطالب به وبفتحه من جديد، ولكنْ في قرنٍ جديدٍ، بل في ألفيَّة جديدة، ففي سنة ٢٠٠٠ تقدّم المخرج المصري جلال الشرقاوي الى شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد سيد طنطاوي بطلب الموافقة على إخراج هذه المسرحيَّة.
يروي جلال الشرقاوي في إحدى مقابلاته التلفزيونيَّة مع الإعلاميَّة قصة مغامرته التي سيُكتب لها الفشل لتلقى ذات مصير سابقتها. يقول الشرقاوي (كنت شغوفاً بقصة الحسين ومأساة استشهاده التي كانت تشغلني وفي سنة ٢٠٠٠ كان موضوع محاولة توريث الحكم لجمال حسني مبارك (نجل الرئيس مبارك) هو الحدث الساخن والشاغل للرأي العام بين مؤيدين ومعارضين ولأنَّني من المعارضين لهذا التوجه قررت المبادرة للتصدي لإخراج مسرحيَّة (ثأر الله) التي سأتصدى من خلالها لواقعٍ تأريخي ولإسقاط سياسي راهن، فالمشكلة هي ذات المشكلة والدعوى ذات الدعوى)، ويستطرد الشرقاوي بأنه قد أجرى بعض الاتصالات بزوجة عبد الرحمن الشرقاوي وابنه د. أيمن الشرقاوي وأخذ موافقتهما ومباركتهما، ليقوم بعد ذلك بإعدادٍ للنصين ليكونا نصاً واحداً وفق (ثيمة) رئيسيَّة هي التوريث.
وقد قام الشرقاوي جلال بعد ذلك - وفقاً لروايته- الذهاب الى شيخ الأزهر مباشرة دون الذهاب الى لجنة الرقابة لاستحصال الموافقة الأهم! وفعلاً قام الشرقاوي باصطحاب الفنانة سهير البابلي التي رشّحها لأداء دور السيدة زينب (ع) وذهبا سويَّة الى الدكتور أحمد كمال ابو المجد الذي أثنى على المشروع وأكد ضرورة الرجوع إلى شيخ الأزهر، وقد أحال شيخ الأزهر بدوره الأمر إلى مجمع البحوث ليبت فيه. وقد كان رد فعلهم صارماً وحاسماً في رفض الطلب كليَّة.
وبعد التماس قدمه المخرج الشرقاوي لشيخ الأزهر شيخ طنطاوي، تمت استضافته في اجتماع مجلس البحوث. كان ذلك في ٢٦ أكتوبر ٢٠٠٠. ويقوم الشرقاوي بعد ذلك بالاستعداد التام للاجتماع ودراسة كل حيثيات ومعطيات الواقعة التاريخيَّة المتعلقة بقضيَّة الحسين واستشهاده ومصادرها ليخوض نقاشاً حامياً مع أعضاء مجلس مجمع البحوث الذين حاججوه وواجهوه بمحظورات عديدة منها (احتماليَّة الوقوع في فتنة بين الشيعة والسنة، تحريض الجمهور بين الوقوف بوجه الحاكم والحكومة متخذين من الحسين مثلاً أعلى، الإساءة المحتملة الى بعض الصحابة، فضلاً عن التحفظ التام على تجسيد شخصيات آل بيت النبوة (ع)”.
ورغم اختلاف وجهات النظر الذي حدث بين في ما بين أعضاء المجمع الذي نتج بعد نقاش حاد، ورغم كل ما قدمه المخرج الشرقاوي من دفاعٍ وتوضيحاتٍ وتفسيرات تدحض كلّيَّة هذه الحجج والأسباب المفتعلة، وبعد قرابة الساعتين من النقاش المشترك الحاد.. تمَّ رفض الطلب. وبذلك حدث الرفض الثالث، وهي بمثابة القمع الثالث لهذا المشروع والعمل المتفرد، أقول الثالث، ذلك أنَّ هناك من يؤكد وجود منعٍ ثانٍ لمحاولة تقديم هذه المسرحيَّة كان قد تمَّ عقب منع عرض كرم مطاوع منتصف السبعينيات، إذ قام طلبة كليَّة الزراعة بجامعة القاهرة بالتدريب على المسرحيَّة ذاتها وتم (قمعهم) من قبل رئاسة الجامعة ومنع العرض نهائياً ولذات الأسباب المزعومة والتي تشعبت بين مسوغات دينيَّة وأخرى سياسيَّة. كان ذلك بعد شهورٍ قليلة من إنهاء المحاولة الأولى التي قام بها المخرج كرم مطاوع.
بعد فشل مغامرة جلال الشرقاوي وسعيه الحثيث لتقديم العرض، انبرت دعوات وأمنيات لفنانين مصريين لتقديم هذه المسرحيَّة لا سيما من قبل الممثلين البارعين نور الشريف وأحمد ماهر اللذين أبديا رغبتيهما العارمة بأن ينالا شرف تقديم هذه المسرحيَّة وشرف تجسيد شخصيَّة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع).
بعد كل هذا القمع والمنع لهذه المسرحيَّة الرصينة المكتنزة بقيم البطولة والشهادة والحق، وبعد أنْ نال من حاول وأخفق، شرف المحاولة… من سيحاول مجدداً؟ ومن سينال شرف تقديم هذه المسرحيَّة؟ ومن سينال شرف المحاولة في أقل تقدير، وهل سيتم هذا الأمر في بغداد أم كربلاء أم القاهرة أم دمشق أم تونس أم.....؟