حسن الكعبي
مع كل محاولة لتبخيس الشعر ومحاولة وضعه في مرتبة أدنى من الإبداعات الإنسانية والمعرفية ومن ثم التبشير بموته، فإنه يمارس تحدياته للمواجهات النقدية، التي بشرت بموته أو انحساره، بإزاء تحديات المجالات الأدبية والمعرفية الأخرى، في سياق صعود هذه الأخيرة في التراتبيات التصنيفية، التي وضعتها النظريات الثقافية بطبعتها الكلاسيكية، والتي نتج عن سياقها التراتبي هذا ظلما كبيرا للشعر.
إن هذه المواجهات استندت إلى تلك الرؤى القاصرة، التي تعاين الشعر بوصفه فعلا انكفائيا وإنتاجية أدبية جمالية وجدانية، تتحرك في مساحات ثقافية ضيقة غير قادرة على الامتداد داخل الثقافي، أو إنها لا تستطيع الارتقاء بمنتوجاتها لتتصيَر فعلا ثقافيا مؤثرا في المتسع من كون التلقي.
نتج عن ذلك سيادة نوعية من الرؤى القاصرة، التي اختلقت قوانين شكلانية تجعل من الشعر الرديء الخالي من الأغراض المعرفية والقضايا الفلسفية والإنسانية، والمحتكم إلى أغراض تقليدية يهيمن عليها ثنائية "المديح والهجاء"، بمجاورة الشعر العظيم الناتج عن تأملات معرفية فلسفية، واكتناه القضايا الإنسانية، وهو ما يفسر نوع التحيزات لبعض القصائد، التي تمجّد الظلم وتبرر سحق الإنسان تحت مبررات الجمالية وشكلانيتها، بعيدا عن حيازتها المضمون الإنساني. وقد ساعد هذا الابتعاد على شرعنة الممارسات الفاشية ضد الإنسانية في سياق هذه الرؤى التبريرية، التي تعاين الشعر بوصفه صناعة جمالية معزولة عن السياقات المعرفية والثقافية، وليصبح بذلك "ايزرا باوند بمجاورة ارثر رامبو، وعبد الرزاق عبد الواحد بمجاورة مظفر النواب"، كما نتج عن هذه الرؤى امكانية أن يلقب أحد شعراء الغرض "المديح والهجاء" المنخرطين بتلميع صورة الطاغية، وممن يصف مخالفيه في الرأي بالكلاب، بلقب الكبير أو المبدع العظيم ... الخ من توصيفات مجانية تم تجريد شاعر عظيم مثل أبي الطيب المتنبي، منها نتاج هيمنة هذه التقاليد على بعض من شعره، بل ووصفه بــ "الشحاذ العظيم" من قبل الناقد عبد الله الغذامي.
إن هذه الرؤى النقدية المنتجة لتصوراتها القاصرة للشعر تصدق على أغلب الإنتاج الشعري، الذي يتسم بقصوره المعرفي وميله نحو الانكفائية النصوصية، لكن هذه التصورات لا يمكن تصدق على المنجز الشعري الحقيقي الذي يتحدى هذه الرؤى ويفضح طابعها التعميمي وقصورها المنهجي، فمراجعة الشعر الحقيقي في إطار تجلياته التاريخية وتجلياته المعاصرة والحالية تكشف عن قدرته المذهلة في التداخل مع المعرفي والثقافي وتأثيره في هذين الحقلين، ومن ثم ارتقاؤه كفعل ثقافي مؤثر في كون التلقي، ومؤثر في فضاءاته المتسعة، ذلك أن منجزات شعرية عالمية وعربية كالتي انتجتها مشاريع "رامبو، اليوت، بيسوا، السياب، ادونيس، درويش، سعدي يوسف وآخرين" ومشاريع انتجتها تجارب سابقة ولاحقة على هذه التجارب، تؤكد فعالية هذه المشاريع في التأثير على المجالات المعرفية والحقول الثقافية المختلفة، عبر الاستثمار المذهل للتراثات المعرفية والثقافية بتجلياتها الدينية والأسطورية والفلسفية والأدبية وتذويبها داخل منظومة الشعر. فقد كان هايدغر يرى في الشعر مصدرًا للحكمة والفلسفة، وأن الشعر يمكنه أن يساعد الإنسان على فهم الوجود والحياة، وأن الشعر يكشف عن الحقيقة بطرق غير تقليدية، ويمنحنا رؤى جديدة عن الوجود، فاللغة والشعر - كما يؤكد- هي بيت الوجود، حيث إن اللغة والشعر يعبران عن الحقيقة والوجود بطرق لا يمكن تحقيقها بوسائل
أخرى.
يكتسب مفهوم الشعرية تحققه عند لوسيان غولدمان من خلال مفهوم رؤية العالم، بمعنى أن الوظيفة الشعرية هي اتصال بمعطيات تقع خارج النص، متفاعلة بالقوانين الداخلية المتحكمة ببنائه، وبمعونة من هذا التصور وتصورات هايدجر يقترح الناقد جمال جاسم امين أنه ولكي نصل إلى مفهوم "الشعرية" كاصطلاح نقدي مستقل يجمع بين الفلسفة والشعر. لا بد أن نتجاوز التفسير البنيوي المحدود والتركيز على العلاقات الداخلية للنص، ونحتاج إلى مقاربة تجمع بين الفلسفة والشعر لفهم العمق الكامل للشعر.
ومن هذا المنطلق يقول حيدر الأديب في سياق مراجعته لمنظور أمين النقدي: تظهر مقولات هايدغر فعالية وكفاءة كبيرة في دعم فكرة جمال جاسم أمين حول أن مفهوم الشعر لا يمكن فهمه بشكل كامل، من خلال التفسير البنيوي وحده. فهايدغر يقدم منظورًا فلسفيًا أعمق للغة والشعر، مؤكدًا أن الشعر يكشف عن الوجود والحقيقة بطرق تتجاوز البنية السطحية للنص. لذا، يمكن اعتبار الشعرية اصطلاحًا نقديًا مستقلًا يجمع بين الفلسفة والشعر لفهم جوهر الشعر بشكل أعمق.
إن هذا التصالح بين الفكري والشعري في الفضاء الغربي اسفر عن عودة الشعر إلى مركزيته الثقافية ودخوله لمنطقة الصناعة والتمأسس، بحيث أصبح للشعر يوما عالميا أسوة بالمناسبات العالمية الكبرى، فقد أدركت التصورات النقدية والثقافية عدم امكانية موت الشعر – بالمعنى، الذي يجعله في مرتبة أدنى في التراتبيات الثقافية - وإن كان في سياق الإطلاقات الجزافية.
في مقال له يقول مناهل السهوي "كان لدى جون ديوي، خطاب افتتاح في كلية سميث، وكان العلماء الشباب ينتظرون سماع خطبته، ولكنه فاجأهم وافتتح خطابه بفقرة من دراسة الشعر للناقد الأدبي والشاعر الإنكليزي ماثيو أرنولد، والتي تقول إن "مستقبل الشعر هائل، لأنه في الشعر، حيث يستحق مصائره السامية، سيجد عرقنا، مع مرور الوقت، إقامة أكثر أمانًا".
صدمت افتتاحية ديوي العلماء الشباب، إذ كان الشعر آخر ما يتوقع أن تفتتح به خطبة وسط العلماء. وتابع ديوي اقتباسه قائلًا: سيكتشف مزيد ومزيد من البشر أنه يتعين علينا اللجوء إلى الشعر لتفسير الحياة لنا، ولتعزيتنا، ولإعالتنا. من دون الشعر سيظهر علمنا غير مكتمل، وسيحل الشعر محل معظم ما يُعرف الآن بالدين
والفلسفة.