ابتهال بليبل
كلما سمعت أو قرأت إعلاناً بترك الكتابة يعلنه أديبٌ، شاعرٌ أو كاتبٌ، تنتابني مشاعر متناقضة جداً عن أصل الشرارة التي قدحت هذه الفكرة في ذهنه، ماذا يعني اعتزال الكتابة، هل وصلت إلى مبتغاك، هل قلت كل ما تريد قوله، هل كتبت عمل عمرك؟ هل أثريت الساحة الثقافيَّة بأعمالٍ مهمة؟.
ثمّ قبل كلّ هذا، هل أنت مؤثر في حيزك المعرفي ليكون اعتزالك مؤثراً أو صادماً أو خسارة فادحة لحرفة الحرف الفعّال! هل سيشعر القرّاء أنَّك تركتهم؟ هل كان وجودك الكتابي مُلاحظاً أصلاً.
بعد روايته الكبيرة "الحارس في حقل الشوفان" قرّر كاتبها اعتزال المجتمع وعاش أكثر من خمسة عقود بعيداً عن كلّ شيء في عزلة تامَّة لا يقطعها شيءٌ، لكنَّ جيروم ديفيد سالينجر (1919 - 2010) يحقّ له أنْ يختارَ العزلة بعد نجاحٍ هائلٍ وملايين النسخ وعشرات الترجمات، فكيف نسوّغ قرار اعتزالٍ لكاتبٍ لا يعرفه غير عددٍ محدودٍ من القرّاء، أو لعلَّ بعضهم لا يعرفه غير أصدقائه، ولا نتاج عميقاً له يجعله في حالة رضا عن منجزه.
فلماذا هذا القرار؟ هل هو مجرّد محاولة أخيرة للفت النظر لرحلة حياة مغمورة؟ أم هو شعورٌ حقيقيٌّ بعدم جدوى الكتابة، وإنَّ ترك الساحة للطارئين الذين لوثوا بياض الفكرة هو الحل الآن. لأنَّ العزل سيأتي.. سيأتي؟
هل أسهمت "السوشيال ميديا" في دفع الكاتب للشعور بضآلة حجمه في الكون الكتابي، وأنَّ زمن القراءة الورقيَّة التي تجعله منه مسوقاً ككاتبٍ انتهى إلى الأبد.
هذه التساؤلات الكثيرة تدفعني إلى مسألة أخرى في عالم الكتابة والكتّاب، هي تضخم ذات الكاتب مقابل (الآخر) وشعوره بأهميته المضاعفة بوصفه منتجاً فاعلاً في عالم الفكر، لكنْ هل هناك قرارٌ يمكن أنْ يكون بهذه القسوة التي تعادل الانتحار، فالابتعاد عن الكتابة - لمن اعتادها - يشكّل قراراً بالموت البطيء.. فلماذا نقرّر الاعتزال؟، أليست الكتابة في صورة من صورها حلبة صراعٍ ومنافسة وعراكٍ دائمٍ مع الحياة؟، هل يحقّ للمصارع أنْ يرفع يده مستسلماً؟. ثم هل الاعتزال هو اعتزالٌ عن النشر فقط، أم عن فعل الكتابة كله؟
في الموضوع (إنَّ) كما تقول الجملة العربيَّة الشهيرة، وحولها وداخلها لا بُدَّ لسؤال الكتابة أنْ ينمو ويتجدّد، وألا يقف عند حدٍّ أو مدى ما، لأنَّ الكتابة الحقيقيَّة محاولة دائمة لإثارة الزوابع الفكريَّة.