قبل أن يغادرنا القطار الأخير

منصة 2024/08/22
...

 د. رياض موسى سكران 

امتداداً لنبرة صوت أسطورة الغناء الفرنسيّة «أديث بياف»، أطلت المغنيّة الكندية «سيلين ديون» في تحد نادرٍ لمرضٍ أصاب بعض اعضائها، إلا أنه لم يصب احساسها، أطلت بصوتها العذب وشعورها المرهف في افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس الذي كان حفلا يختزل كل القيم الفرنسية، سواء اختلفنا أو اتفقنا معها، وذلك عبر استحضار مفردات جمالية متجذرة ومتجددة في حقول الرياضة والفنون.

فقد أدت المغنية الكندية ديون أغنية «نشيد الحب» لبياف، من الطبقة الأولى لبرج إيفل، متحدية بذلك مرضها النادر الذي يمنعها من مواصلة مسيرتها الغنائيّة، وهو ما جعل رئيس الحكومة الكندية يصرح «تخطت كثير من الصعاب لتكون هنا هذه الليلة، سيلين من الرائع أن نراك تغنين مجدداً..» وهو يعبر عن مشاعر ملايين المعجبين بسيلين ديون. 

لقد كان الافتتاح يدل على أن الحضارة والتأريخ، هما الفاعل الأكبر والأهم في صناعة الحاضر، وهو الرصيد الذي ندخل من خلاله إلى المستقبل بثقة واطمئنان.. فمن خلال طقس ممطر ابتلّت البنايات والاشجار والاضواء الخافتة والشوارع، كما هي العادة في يوميات مدينة باريس الساحرة وأيقونتها الراسخة المتمثلة بنهر «السين»، فبعد مئة عام على استضافة باريس لدورة الألعاب الأولمبية تعود للمرة الثانية في هذا البلد، ليقول ماكرون جملته البروتوكولية الشهيرة «تحت الأمطار.. أمام برج إيفل.. أعلن افتتاح دورة الألعاب الثالثة والثلاثين للألعاب الأولمبية الحديثة».

  وهكذا انطلقت طقوس الافتتاح الذي شاهده العالم كله، مقابل 10 مليارات يورو فقط، قدمت باريس كرنفالا جمالياً، يعكس ثقافة المدينة الممتد عبر التأريخ من خلال التقنيات والتكنولوجيا الحديثة لتمزج ماضيها بحاضرها، ثقافتها بسياستها، لتحقق صورة الاحتفال أثراً سيبقى ماثلاً في ذاكرة العالم لسنوات طويلة، لا سيما وان الاحتفال قد اشتبك بجرأة جمالية عالية بعض رموز وثوابت وتابوات بعض الأديان والثقافات والفنون..

  لقد مزج القائمون على هذا الكرنفال الاحتفالي كل جماليات الفنون بكل جماليات الرياضة، ليخلقوا خطاباً جمالياً عاشه العالم في هذا الطقس الاحتفالي الساحر، حيث الشعلة الأولمبية والقوارب تنساب في نهر السين بذوق رفيع ورؤية فنية جمالية حداثوية..

حفل افتتاح الألعاب الأولمبية هو الأول الذي يقام خارج الملعب، حيث تحولت العاصمة الفرنسية إلى مسرح كبير لأحداث حفل الافتتاح هذا الحدث الرياضي الذي اقيم في القوارب على طول نهر السين، مرورا بالمعالم الباريسية الأكثر شهرة وتميزاً وحضوراً في ذاكرة العالم.

   وعادة ما كان ملعب رئيسي في المدينة المنظمة، هو الذي يحتضن مثل هذه المناسبات وينظم فقرة دخول الرياضيين، ولكن باريس استخدمت نهرها الشهير هذه المرة لتؤكد خصوصيتها وفرادتها وتميزها عن كل أماكن العالم، فضلاً عن رمزيّة النهر ودلالته على الحياة والمستقبل..

   أولى أسباب النجاح الفني الكبير الذي حققه حفل افتتاح باريس، بعيداً عن السياسة وما أرادت أن تبثه باريس من خلال هذا الكرنفال، إنه كان بعيداً عن الشكليّة والتلفيق والتزويق وادعاءات الفهم بجماليات الحداثة وتنظيراتها التي اتخمت مكتباتنا ومقالاتنا وأطاريح ورسائل جامعاتنا، وهي مازالت للآن عاجزة عن الوصول إلى أبجدياتها الأولى، فضلاً عن العمل بمبدأ «أعطي الخبز لخبازته»، وهم يبعثون برسالة مزدوجة للعام حين قدموا المغنية الكندية سيلين ديون لتشارك في كرنفال باريسي وحدث عالمي كبير ومهم لن يتكرر في مدينة باريس بسهولة، من جانب آخر أرادوا أن يقولوا للعالم إن الأغنية الفرنسية الشهيرة التي غنتها أسطورة الغناء الفرنسي أديث بياف، لا تزال حاضرة ومؤثرة في الذاكرة الإنسانية، وها أنتم تستمعون إليها بصوت أسطورة الغناء الكندية سيلين ديون صاحبة أعذب وأجمل وأشهر صوت رومانسي في العالم، تشارك معنا في كرنفال باريس على الرغم من وضعها الصحي الحرج. 

 الرسالة التي ينبغي أن نتوقف عندها ونتأملها بوعي وهدوء وانتماء وطني وحضاري وأخلاقي.  إن كنا نريد أن نعيد العراق لمساره الحضاري والقيمي كأول بلد ولدت على أرضه حضارات الدنيا.. هي: أن التحضر والرقي الإنساني والذوق الرفيع متجذر في طبع الإنسان منذ جيناته التكوينية وفي مراحل النشوء الأولى، ولا يمكن استعارته أو ادعائه أو شرائه، أو تزويقه بالبدلات وربطات العنق الحمراء التي تعجز عن تغطية الكروش، أو السيارات الفارهة التي تفضح جوع مزمن، ولن تزيدنا إلا سخريّة بكم واستحقاراً لكم واستهزاءً منكم، ويكفي أن رؤيتكم تذكرنا بمقولة سيد البلغاء وإمام المتقين «لا تطلب الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باقٍ».

لنراجع أنفسنا قبل أن يغادرنا القطار الأخير، ويتركنا في محطة مظلمة، يعبث بها الذباب الأليكتروني وجيش المرتزقة والمأجورين.. فالأبيض أبيض، والأسود أسود، ولن تنفع معه عمليات «البوتكس» الوقتية التي سيكشف الزمن زيفها عاجلا أم آجلا.