زمن موت التفعيلة

ثقافة 2024/08/26
...

  د. صباح التميمي

هل نعيش زمن موت التفعيلة؟
لماذا لم نعد نجد لها أثرا إلا في الندرة ؟
هل ماتت الروح الحيّة التي كانت توقدها في الشعراء؟
هل اكتفى الشعر بالنثر ثوباً امبراطوريا وجلس على عرشه؟
هل السبب يرجع لانبعاث العمود الجارف اليوم؟
هل الحداثة أو ما بعدها تقتضي ازهاق روح آخر وارثي الفراهيدي، والإجهاز على ايقاعاته الشفيفة؟
هل صارت التفعيلة مركبا صعبا أمام التجارب الشابة، بحيث لم نعد نجدها إلا في جبّة العمود أو  بذلة قصيدة النثر؟
اذا كنّا نؤمن بالـ (لا شكل)، وهذا الإيمان يقتضي كتابة الشعر بكل الأشكال، فلماذا يُحتضَر هذا الشكل الآن دون غيره؟
تساؤلات كثيرة تنبع من إشكالية تغييب هذا الشكل، وطغيان شكلين فقط على الكتابة الشعرية الجيّدة طبعا، أما الترهّلات الصبيانية فهذه لا تعد من الشعر.
صحيح إن قصيدة النثر جاءت عندنا - في العراق - مع جيل الستينيات، لكن هذا الجيل لم يقتل التفعيلة نهائيا، بل حاول التخفّف من قيود شكل الرواد أولاً، فنضّج التدوير، وكادت التقفية ان تختفي في كثير من تجاربه، ومارست أخرى قصيدة النثر أو التنويع في الأوزان في القصيدة الواحدة، لكننا بقينا نشم رائحة التفعيلة عند التجارب الستينية الهرمة التي عاصرتنا، عند آخر رجال الموجة الصاخبة، وإن كانت رائحة طهيها لهم لم تعد  بقوة الأمس.. وقد يدخل معهم من تأثر بهم من شعراء اليوم، فتأثيرهم السحري لم يزل ساري المفعول.
 لكننا اليوم، والكلام بشكل عام، لا نعثر إلا على فتات خافت اللون، هنا وهناك… الصوت المرتفع اليوم للعمود ! أو لقصيدة النثر… ولا شريك لهما!
وبظني أن صراع الثنائيات بدأ منذ التسعينيات، وبقي يزحف  إلى يومنا هذا، وكان الستينيون - لاسيما شعراء البيان - قد صنعوا أرضية صراع الأشكال الإثني الخصبة… حين نادوا - وإن ادعاءً نظريا في أحيان كثيرة - بالقطيعة مع الآباء، وقالوا بتحطيم من كانوا يرونهم أصناما على باب معبد الحداثة، أعني الرواد.
 وبهذا الإجهاز، فتح التسعينيون أعينهم على أطلال تفعيلية خربة، فراحوا ينقسمون على شكلين لا ثالث لهم - إلا في تجارب فردية - هما العمود، وقصيدة النثر، وراح كل يغنّي على ليلى الحداثة التي يرغب بها!
وبهذا جرف تيار الصراع الاثنيني التسعيني ما بقي من بذور تفعيلية بعيدا… وصارت تنمو في زاويا الجروف، غير مرئية، متوارية عن أشعة شمس الظهور، فخفت صوتها أو اختنق، في المحافل، والمنصّات، والمجلات، والوسائل الأخرى.
وكان لمسابقات اليوم دور كبير في هذا التغييب، ولعل أنساق العمودية المتخفّية تحت سطوح ذواتنا العربية الصارمة، كانت وراء هذا،  فالمسابقات بجوائزها المتضخمة المغرية التي تلوّح بها للشعراء، رسّخت نمطا من أنماط الكتابة الشعرية، انصرف إليه الشعراء دون غيره، وهم يتطلعون لكسب رضا المسابقة، فصار التحديث متجها لنمط بعينه، وهو نمط يتصل بالسلطة الثقافية والتنافس عليها بين دول المسابقات ذات الميزانيات الانفجارية. التفعيلة حالة وسطية صحيّة تقف وسطاً بين فحل الضجيج الإيقاعي وأنثى الخرس النثري، ووجودها اليوم حاجة ملحة لمعالجة القضايا الراهنة بروح ذات رؤية كونية تستوعب الجميع .
وليست هذه دعوة للشكلية، بقدر ما هي دعوة لتنويعها؛ لكي لا تصاب الذائقة الجمعية - على تقلّصها - بعدوى الملل من المُنمَّط المكرّر.