شيء عن معطف غوغول

ثقافة 2024/08/28
...

 أ.د. منذر ملا كاظم

خلق الكاتب الروسي العظيم نيكولاي غوغول “معطفه” الذي سيخرج من تحته جميع كتاب روسيا الكبار بحسب دستويفسكي، بأسلوب بسيط ومباشر، فقد عرض المؤلف قصة موظف عادي يعاني من اضطهاد وسخرية مجتمع عديم الشعور وبيروقراطية مقيتة خلال حقبة الحكم الاستبدادي للقيصر نيكولاي الأول، مسلطاً الضوء على تفاصيل تبدو غير مهمة وتافهة للفت الانتباه إلى الإساءة التي يتعرّض لها ذلك الموظف البسيط.

    اقتبس غوغول موضوع “المعطف” من قصة سمعها ذات يوم من أحد أصدقائه، وخلاصتها أن موظفاً بسيطاً كان مولعاً ولعاً شديداً بالصيد، فأراد أن يشتري لنفسه بندقية جديدة، لذا اضطر إلى أن يقتِّر على نفسه ويقتصد في مصروفاته اقتصاداً شديداً حتى يتمكن من تحقيق حلمه. وما أن تمكن من شراء هذه البندقية حتى ذهب في رحلة لصيد الطيور البحرية في خليج فنلندا. وهناك فقد الرجل بندقيته، ولم يستطع أن يفيق من هول الصدمة ومات كمداً على خسارته التي لا تعوض.  
   أثرت هذه القصة تأثيراً كبيراً في الكثير من الكتاب المعروفين وقتها حيث نسجوا بعض أبطال قصصهم وراياتهم على منوالها، مثل الكاتب غونتشاروف في روايته “اوبلوموف” ودستويفسكي في قصة “المساكين”، وقال عنها الناقد الروسي المعروف وقتها بيلينسكي بأنها “ من أعمق نتاجات نيكولاي غوغول”
    استمر غوغول في كتابة “المعطف”  لمدة طويلة قاربت الثلاث سنوات، وكان يعود باستمرار إلى القصة يحذف منها سطوراً ويكتب أخرى غيرها. في صيف عام 1839، كتب أول نسخة من القصة وأطلق عليها اسم “ الموظف سارق المعاطف”. ، وكان الكاتب يغير مراراً  في نصوص قصته  قبل أن تصدر قصته لأول مرة  عام 1842، ولم يكن ذلك بسبب الرقابة.
   يتناول الكاتب في قصة “المعطف” إنساناً بسيطاً يعمل كاتباً في إحدى الدوائر الحكومية ويقضي حياته في العمل ناسخاً ويعيش بين أكوام الورق التي تنهي فيه أي تطلُّعٍ وطموحٍ. وفي أحد الأيام قرر أن يشتري معطفاً جديداً بدل المعطف المهترئ الذي يرتديه في عمله. عندئذ أصبح هذا الهدف يسيطر على كل حياته ويصبح من أولويات تفكيره. وعندما تحققت أمنياته في شراء المعطف الجديد شعر بسعادة متناهية لا حدودو لها،غير أن سعادته هذه لم تدم طويلاً إذ سرعان ماسُرق منه معطفه الجديد. بعدها يقرر أن يطلب المساعدة من رؤوسائه، لكنه عبثاً حاول، فلم يجد منهم إلا السخرية واللامبالاة مما يؤدي إلى انهيار أعصابه وإصابته بالحمى ويموت على إثرها.
     عالج  غوغول قضايا اجتماعية مختلفة في قصته هذه، وأبرزها كانت قضية الإنسان الفقير المسحوق والسخرية التي كانت يتعرض لها، حيث كان لديه ما يكفي من قوة تحمل للصمود أمام ما يتعرّض له من استهزاء وقمع  في سبيل الوصول إلى هدفه في شراء معطف جديد يقيه من البرد الشديد ومن سخرية الناس، رغم ماتطلبه تحقيق هذا الهدف من حرمانه من عدة حقوق. وأراد الكاتب أن يبين لنا أن مطالبة البطل بحقوقه، بعد سرقة معطفه، مدعاة لأن يتعرض للقمع، وأن حصوله على حقه يتطلب أن يكون له وسيط يعتمد عليه، وفي غياب ذلك، ستظل حقوقه مهضومة. وعالج الكاتب فيها كذلك العلاقة بين أصحاب النفوذ وبين الناس البسطاء، حيث تنطوي هذه العلاقة على لا مبالاة أصحاب النفوذ تجاه هموم الناس الذين تحت إمرتهم واحتقارهم لهم.

تدريسي في جامعة بغداد
 – كلية اللغات