عشيقة لينين.. {إنيسا} الثوريَّة

ثقافة 2024/08/28
...

  فاروق صبري

أصبحت كتب السير الذاتيّة مهمة وحيوية ومقروءة، ليس لأنها تسلط الأضواء على أحداث وشخصيات والأمكنة والأزمنة، وإنما صارت محط انشغال النقاد للدراسة واهتمام القراء للقراءة كمنجزات أدبيّة يمكن وضعها أو وضع بعضها - المكتوب بأسلوب سردي ممتع كتابة وترجمة - في مصاف روايات عالمية معروفة، ويمكن القول إن فن كتابة السير الذاتية يظهر وجود نوعين من هذه الكتابة، الأول: سيرة تخص كاتبها. والثاني: كاتب يسرد سيّر الآخرين.

ومن أهم شروط تألق النوعين أو جعلهما نصّاً مثيراً ومُقنعاً ومُفيداً هو السرد الجريء والصريح والكاشف للمسكوت عنه والمتجاوز للتابوات الاجتماعية والأيديولوجية والمتعمق في كشف الأسرار والخفايا وجعلهما علناً وواضحاً وصادقاً، بل ثرياً كمعارف تُغني وعي القرّاء، وربما تختلف بشكلٍ ما في بعض تفصيلات ما يسرد-يُؤرخ المؤلف ولكن لا بأس في الإنصاف أو قراءة المُختلف معك، لأنَّ هذا الأمر يجعل ثقافتك غير مُغلقة وأكثر قدرة على اتخاذ المواقف الدقيقة والشجاعة والصادقة في الحياة الاجتماعية وتجاه المظاهر المعرفيّة منذ بدء الخليقة وإلى يومنا هذا.
 ومن المنجزات الاستذكاريَّة نتوقف عند كتاب "أنيسا.. عشيقة لينين" للمؤلف مايكل بيرسن وترجمة العراقي الدكتور فاضل السعدوني، والكتاب يحتوي على أربعة عشر فصلاً تسرد العديد من محطات "إنيسا آرماند فيودورفنا" التي سجلت حضورها الفعّال في مسيرة ثورة اكتوبر الروسيَّة وفي بعض سياقات حياة مُفجِّر هذه الثورة "فلاديمير ألييتش أوليانوف، لينين" وقد احتوى الكتاب على اربعة عشر فصلاً، يُتابع خلالها بيرسن أسفار "إنيسا" المتنوعة والمختلفة في جغرافيتها وسياقاتها الثقافية والسياسية والاجتماعية.
ووفق ما يروي بيرسن، فإنّ شخصية "إنيسا" منذ سنوات عمرها الأولى كانت قوية وحادة وصادقة، وفي فترات العمل السياسي والمنافي والاعتقالات وعلاقاتها مع الشخصيات الثورية، وفي حياتها الاجتماعية بعد زواجها المبكر من "الكسندر آرمان"  صاحب مصانع النسيج، ومن ثم انفصالها منه وعلاقتها العاطفيَّة مع أخ زوجها وهو "فلاديمير آرمان" تميّزت هذه الشخصية بمواقفها وآرائها الاجتماعية، والذي شكل مصدراً رئيسياً في كتاب "مايكل بيرسن" والسياسيّة بالحدّة والصدق والتنافر حتى مع أكثرهم قربًا اليها وهو لينين والذي اختلفت معه لمرّات ومرّت علاقتهما "بمراحل مختلفة" ولكنها كانت تعود اليه بسبب ثقتها الكبيرة به وبأفكاره وأحلامه ومزاجه ومشاعره.
وفي هذا السياق يقول المؤلف بيرسن في مقدمة كتابه هذا "جاءت أوقات تحدّته فيها وفي مرحلة ما كانت تتحدث اليه، وفي أوقات أخرى عادت سعيدة إلى روسيا من أجله مُدركة بأنّها سوف تُلقى في السجن". وفي نهاية حياتها اعترفت إنيسا بـ "أن لينين مع أطفالها والقضية التي تشاركا فيها كانوا يمثلون كل حياتها"، وهذا الاعتراف وجد مع رسائلها التي سجلتها في دفتر مذكراتها المغلف بقماش أحمر، والذي شكّل المصدر الأساسي لكتاب "إنيسا عشيقة لينين" لمايكل بيرسن.
يُقال أن من أخطاء، وبل خطايا الأحزاب الشيوعيّة العالميّة، وخاصة الحزب الشيوعي السوفياتي هو جعل حدث ما يخصه مقدسًا أو شخصية ما تنتمي اليه مقدّسة، ولا يمكن الاقتراب منها أو إبداء آراء حولها وحول مسيرتها، وهذا الأمر تجاوزه، بل رفضه بيرسن في كتابه الذي يركّز على العلاقة العاطفيّة والسياسيّة بين إنيسا ولينين، وعلى بعض تفصيلات تلك العلاقة التي مرّت بعديد من العثرات والفجوات وأظهرت جوانب اشكالية في شخصية لينين والتي كانت مخفية في سنوات ما بعد عام 2017، ولذلك يعتقد بيرسن بأنَّ كتابه "لا يهدف إلى التشهير بقائد ثورة اكتوبر الاشتراكية، ولكنّه يُلقي الضوء على جوانب إنسانيّة جديدة في شخصيته خصوصاً أن ماكينة الدعاية السوفيتيّة ظلت طوال عقود تضعه في مصاف الآلهة".
والمعروف أنَّ تلك الماكينة ظلت في خطابها الإعلامي كستار حديدي يُخفي خلفه أسرار وأفكار وسلوكيات ونيّات ورغبات الشخصيات التي حكمت الدولة السوفياتية بعد لينين ومنها جوزيف فيساريوفيتش ستالين، وجورجي مالنيكوف، ونيكيتا خروشوف، وليونيد بريجينيف، وميخائيل غورباتشوف الذي أسهم في تفكيك الاتحاد السوفياتي كمنظمومة جغرافيّة وسياسيّة موحدة وسلمها إلى بوريس يلتسن كدولة منزوعة من الشيوعيّة وبِعَلَمٍ غادره اللون الأحمر والنجمة الحمراء والمنجل والجاكوج.
الكتاب يسرد جوانب من حياة "إنيسا" من دون التمترس في تفصيلاتها الشخصيّة، أي من دون الانغلاق في دواخلها، بالعكس فبيترسن يفتح ويوسّع أفق سرده الكتابي متخذاً من أرضية الوثائق والذكريات متوجهاً صوب تدوين نص يتماهى مع أسلوب الكتابة الروائيّة، ويروي مراحل متعددة ومختلفة ومستويات غنيّة وحيويّة مع يومياتها الاقتصادية والتربوية والاجتماعية والثقافية من حياة شعوب امبراطورية القياصرة الروس. ويسرد بيترسن عن حب أنيسا للعزف على آلة البيانو وحضورها مسرحية "عرض زواج" لأنطون جيكوف وزيارتها لــ "ثلاثة مرات الى مسرح الفن في موسكو ومرتين السينما وحضرت محاضرة عن الرمزية" وحينما كانت تعيش المنافي المختارة أو القسرية، فإنها كانت تتردد على المراكز الثقافية والمكتبات وتحضر مجالس النقاشات بين لينين والمعارضين له في طريقة ازاحة الحكم القيصري، وهنا نقرأ عن سكن لينين في بيت الكاتب مكسيم غوركي ولعبه الشطرنج مع "بوجدانوف" الذي اختلف مع لينين، حيث كان يؤمن بأن من الضروري أن لا يهمل في "الواقع السياسي الدور القيادي للمثقفين كأمر أساسي وهو أمر رفضه بوجدانوف باعتباره أمرا مستحيلا، لأن المثقفين في نظره ساقطون في شرك ثقافة الفرد البرجوازيّة"، والظاهر أن الكاتب رغم وقائع سيرة "إنيسا" السياسية وشخصياتها الثورية مثل لينين، حاول عبر بث رسائل مربكة وغير منطقية وملتبسة، خاصة حول شخصية لينين وعلاقته الواضحة والمهمة مع السياسيين والمثقفين.
وفي ترجمته للكتاب حافظ الدكتور فاضل السعدوني على دقة وسلامة سرد المؤلف لحياة شخصية إنيسا ومن حولها عبر لغة عربية فصيحة ومشوّقة خلقت طقساً روائياً مترجماً جاذباً للقراء، ومحاولته فيها أمانة المترجم وأن اختلف أو اختلفنا مع محاولات المؤلف مايكل بيرسن في بث مواقف غير دقيقة وكلمات خارجة عن مفاهيم سارد الوثائق والكاشف عن المعلومات حول الأحداث والشخصيات السياسية والاجتماعية.