هل ترتكز المؤسسات الثقافيَّة على رؤى إداريَّة علميَّة؟

ثقافة 2024/08/29
...

  صلاح السيلاوي

نخبوية متصاعدة، وتغريب في الفعل والتوجه، ابتعاد متزايد عن جمهور الثقافة، واتساع للهوة بين الشعبي والنخبوي في العمل الإبداعي. هذه بعض المشكلات التي يجب على الإدارات أن تضعها في ميزان عملها.  
إحدى مظاهر فوضى المؤسسات الثقافيّة في البلاد، هو غياب مناهج العمل غالباً، وافتقار النادر من تلك المناهج إلى الأسس العلميّة التي يجب أن توضع على وفق سد الثغرات في حاجة المشهد، أو البحث عن حلول لمشكلات معينة أو بهدف دعم الظواهر الثقافية الإيجابية ومنع السلبية.

تعمل بعض المؤسسات منذ تأسيس الدولة العراقية إلا أن أغلبها لا يمتلك إحصائيات دقيقة عن المنجز الإبداعي، لا توجد غالباً مصادر توثيقيّة لمسار الحراك المستمر منذ عقود طويلة، لا تحدد تلك المؤسسات المشكلات الثقافيّة التي تعصف بحياة المجتمع، تلك التي يجب على الدولة أن تسهم بمعالجتها، وهي من ثمَّ لا تمتلك منهاجاً لصناعة الحلول أو اقتراحها على الأقل.
لم تستطع هذه المؤسسات أن تقنع الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد بخطورة تغييب ملف الثقافة العراقية، تلك الخطورة المتمثلة بقدرة الثقافة على أن تكون دليلاً للنجاة على مفترق طرق النور والظلام، والتطرّف والوسطيّة، والحرب والسلام.
لهذا كله نشهد دائماً ردود فعل متباينة، غير راضية في الغالب عن النوع الذي تقدمه تلك المؤسسات إذ طالما يرتكز ذلك النوع على ارتجالية واضحة.
إنَّ التساؤل عن قدرة مؤسساتنا على صناعة زاد معرفي، يفضي إلى تساؤل آخر عن قدرتها على تأسيس منصات عمل تحفيزيّة كالجوائز والمؤتمرات والمشاغل النقديّة والبحثيّة للاقتراب من هموم المبدع والمجتمع.
أما الحديث عن نرجسيّة المثقف، فهو حديث مرتكز على تاريخ طويل من التحديق في مرايا التاريخ الاجتماعي والفردي، فضلاً عمّا يترسّب في ذات المثقف من انكسارات السلطة التي طالما يحاول بعضهم تعويضها عبر وجوده في مناصب إبداعيّة معينة.
واحدٌ من الأدلة على ذلك تمسّك كثير من الأدباء بمناصب ثقافية، وسعيهم الدائم لشرعنة تكرار وجودهم فيها في الوقت الذي ينادون فيه ضد تمسّك الساسة بسلطاتهم ويعدون ذلك التمسّك فساداً وخراباً.
السعي للبحث عن حلول لمشكلات الثقافة، سعي يتعثر كلما أراد الوصول إلى مبتغاه، فهو فضلاً عن افتقاره لتخطيط ينطلق من إحصائيات تبين مواطن الحاجة والتميّز والندرة والغياب في أنماط الفعل الإبداعي، يحتاج إلى مال يمكنه من وضع برامج قادرة على صناعة فارق بتحقيق أهدافه، فضلاً عن احتياجه لبنى تحتية من مقار ومسارح ودور سينما؟
انطلاقاً من كل هذه الهموم أتساءل: ما رأيك بمستوى جهد المؤسسات الثقافيّة المستقلة منها والحكوميّة؟، هل تسعى إلى وضع برامج سنويّة أو فصليّة لعملها؟، ماذا عن امتلاكها لإحصائيات تضم أعداد المبدعين ومنجزاتهم، تسهم في رسم خرائط متميزة لمسيرتها؟، ما تقييمك للنوع الذي تقدمه إدارات المؤسسات المعنية، ومدى اقترابه من هموم الثقافة ومشكلاتها وحاجاتها لحلول أو زاد معرفي؟، كيف ترى مستوى النرجسيّة التي تصنعها إدارات العمل الإبداعي؟، وماذا عن تمسّك بعض المثقفين في مناصبهم؟، ما أثر حاجة المؤسسات الإبداعية للبنى التحتيّة من مقار ومسارح وماذا عن حاجتها للمال؟، هذه التساؤلات وغيرها بحثتُ عن أجوبة لها مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع.

حاجة في نفس يعقوب
الشاعر والناقد أحمد الشطري، أشار برأيه إلى وجود جهد كبير يبذل من قبل بعض المؤسسات الحكومية المعنية بالثقافة والمؤسسات المستقلة، لافتاً إلى أن تلك المؤسسات، كل حسب توجهه، يسعى ويطمح إلى تحقيق أثر ثقافي في المجتمع، ولكن الشطري يرى أن تلك المساعي في الغالب تبقى خارج دائرة التأثير، أو أنها لا تمس العمق وإنما ينحصر أثرها في القشرة الخارجيّة، بمعنى أن أغلبها يدخل تحت الفعل المظهري للثقافة وليس الفعل الممتزج مع البنية التركيبيّة للمجتمع.
وأضاف موضحاً: إنَّ عملية تنمية المجتمع ثقافياً تحتاج إلى تحديد الهدف والوجهة والمثابة التي تنطلق منها عملية التنمية، وليس فعلاً اعتباطياً كما يجري الآن.
كما تحتاج إلى مؤسسات فاعلة تعمل على وفق نسق تصاعدي يبدأ من مرحلة الطفولة، ويتحرر من المحددات التي تعيق تأثيره عن طريق توفير وسائل جذب تسهم في توفير الأجواء المناسبة لتحقيق أهدافه، وهو أمر ليس بالمستحيل أو الصعب ولكنه يحتاج إلى صدق في النوايا حكومياً ومؤسساتياً يهدف إلى خلق أثر فعلي نوعي وكمي، وليس فعلاً سطحياً على طريقة (حاجة في نفس يعقوب قضاها).
ولعلَّ أهم ما تحتاج إليه عملية التنمية الثقافية المجتمعيّة هو توفير الدعم اللوجستي، من خلال توفير البنى التحتية التي توفر الأجواء المناسبة لصناعة الثقافة وخلق عملية التفاعل مع المجتمع، سواء عن طريق توفير المقار أو المسارح أو المراكز التي تعنى باحتضان المواهب وتنميتها.
لا غرابة في تمسك بعض المثقفين أو غيرهم بالمنصب، فهذا أمر جبلت عليه النفوس، ولكن الأمر المهم هو ما يمكن أن يصنعه ذلك الشخص من فعل مؤثر وما هو قادر على تقديمه من خدمات لمجتمعه الذي يقوده، ومدى تفاعله مع قضاياهم واحتياجاتهم المشروعة، مبتعداً عن النرجسية والغايات الشخصية التي هي أحد العوامل المسبّبة للفشل في أداء وظيفته.

الثقافة وعوامل المجتمع والسياسة
الشاعر مالك مسلماوي، تساءل في بداية إجابته قائلا: هل الثقافة هي الحل؟، ثم قدم إجابة عن تساؤله بنفسه مبيّنا: الثقافة بمفهومها الواسع تتأثر بتوفر جملة عوامل، أهمها طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي والمزاج العام ضمن المرحلة التاريخية وما تحتمه الاوضاع التي يعيشها المجتمع.. والحديث عن تلك العوامل معقد في مجتمعنا في الوقت الحالي، فـ (ازدهار) النزعات الطائفية والقبلية والعنصرية والدينية مع ضمور مفهوم المواطنة وسكونية الوعي وتفشي الفساد والأمية ومصادرة الحريات وغير ذلك.. جعلت مهمة المثقف والمؤسسة الثقافية مرهقة وعسيرة في مجتمع ينظر إلى المثقف بريبة وحذر!، ولا يمكن أن تحقق الثقافة في هذه الحال- أهدافها كاملة، والغريب أن هذه الظواهر المرضية تسللت بعناد إلى الوسط الثقافي وعرقلت تطلعاته الحضارية السامية ونوايا التغيير المؤجلة دائما.
وأضاف مسلماوي بقوله: إذا كان المهم في هذه الفرصة تناول الثقافة في فضائها (المعرفي والجمالي)، فالمراقب يشهد حراكاً ثقافياً حثيثاً وواسعاً وضمن برامج وخطط، يعاب عليها أحياناً  العجالة والنمطية (منصة/ جمهور).
ومن خلال تعدد المؤسسات وما تقدمه من فعاليات شبه يومية وبمشاركة مقبولة من شريحة المثقفين على مختلف تخصصاتهم.. مع الإشارة إلى تفاوت في نسبة الجمهور الحاضر حققت المؤسسة الكثير على مختلف المستويات... لكن تحت ضغط العوامل التي اشرنا إليها انطبعت ثقافتنا بالنخبويّة، فهناك برزخ بل برازخ بين الميل الشعبي ومزاج النخب المثقفة، لذا انعدم او كاد حصول اي تأثير على الصعيد الاجتماعي!، الأمر الذي أدى الى وقوع المواطن العادي بأيدي قوى رجعيّة مضادة للتغيير الذي تدعو إليه النخب الثقافيّة.
ومثلما تتعدد الأزمات على الصعيد الاجتماعي والسياسي، هناك أزمات على صعيد الثقافة.. فالتهميش والتسقيط والاستعلاء والمزاجية والتكتل وتحكم العلاقات الشخصيّة والمصالحيّة، ما زالت تبعد الثقافة عن شكلها ومضمونها الأصيل.. ويبقى لإدارة المؤسسة الدور الكبير والحاسم مع صفوة المثقفين الحقيقيين في الحد من هذه الظواهر المدانة.
المعوّل عليه في ثقافتنا هو مؤسستنا الرسمية (اتحاد أدباء وكتاب العراق) ذات التاريخ والتجربة الكبيرة وبإسناد.. شريحة كبيرة من المثقفين الأصلاء.
وأشهد أن ما أنجزته الإدارة الحاليَّة لشيء كبير ومفرح.. كما أن الاتحادات الفرعية تعمل على وفق امكاناتها المتاحة، وتقدم ما بوسعها من مبادرات حميدة.. أخص هنا- أنموذجا - اتحاد أدباء وكُتّاب بابل.
ونأمل خيراً في المؤسسات الأهليّة المستقلة، فهي داعم مهم للثقافة العراقيّة.
ومثلما هناك ملاحظات في عملنا المؤسسي هناك ملاحظات على غيره، فالصالونات والمنتديات الأهليَّة تسعى لأن تكون أقرب إلى النوادي الاجتماعيّة التي همّها إحياء المناسبات الاجتماعية والدينية والانشغال بما (كان) عمّا هو كائن وما سيكون!.
ما تقوم به المؤسسات الثقافية الآن، وعلى الرغم من كل ما ذكر، فهو مرضٍ، وعلى الإدارات العمل على تطوير وسائلها وعدم الاكتفاء بأعضائها المخضرمين ونسيان الشباب وأدباء المحافظات، فمنهم لم تتح له فرصة المشاركة بمناسبة أو فعالية او مهرجان، وألا يذكروا في موسم الاشتراكات فقط. على الادارة أن تقيم ندوات حوار موسّعة لمناقشة الوضع الثقافي والتحديات.
وعليها مسؤولية إيجاد مقار ثابتة لاتحادات المحافظات، وإنهاء معاناة طويلة، وسيكون إنجازاً كبيراً يفوق كل الإنجازات.. وأنا على يقين من كفاءة وقدرة الادارة على تحقيق الأفضل دائماً.

فوضى وطفيليَّة وارتباك
الشاعر والناقد المسرحي رزاق الزيدي، تحدث عن الثقافة بوصفها مفصلا حيويا مهما في المجتمعات وعن إسهامها الكبير وفعاليتها في بناء المجتمع أخلاقيا وأثرها الفعال في التعايش السلمي بين افراد المجتمع  القائم على الاحترام والمحبة والإخلاص للوطن والتآخي بين المجتمع بغض النظر عن اختلاف القوميات والمذاهب والاثنيات العديدة.
وأضاف الزيدي قائلاً: كان العراق وما زال مركزاً للإشعاع الثقافي والفكري ولكل ما هو جمالي، وقد تأسست بعض الجمعيات والدواوين لهذا الغرض منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام ١٩٢١، فقد كان  لعدد من النقابات والجمعيات والاتحادات الرصينة المختصة في الثقافة تأثير إيجابي كبير في المجتمع العراقي ولها برامج وإدارات وهيئات قيادية معروفة خصوصاً بعد قيام الجمهورية عام ١٩٥٨.
أما الآن فإنَّ المؤسسات الثقافية في البلد تسودها الفوضى والطفيلية والارتباك وعدم وجود بنية تحتية في أغلب المدن وحتى في العاصمة بغداد مثل قاعات عرض وقاعات مؤتمرات ومهرجانات ومسارح وقاعات تدريب للموسيقى ودور سينما تتماشى مع عدد السكان لاستيعاب الحضور.
وقال الزيدي أيضا بصراحة يمكن أن نقول إن الثقافة مهملة من قبل الدولة وكأن القضية مقصودة فلا نرى ترميماً لما تهدم وما خُرّب ولم نَرَ بنايات جديدة إلا ما ندر ولا دعم. نعم هناك مؤسسات لها وزنها مثل الاتحاد العام للأدباء والكتاب الذي لديه برامج يقوم بتوسعتها باستمرار كما نلاحظ في نوادي متخصصة في القصة والشعر والسينما تقودها ثلّة مخلصة من الأدباء المعروفين والمنتخبين قانونيا.
كذلك نقابة الفنانين التي تقيم المعارض التشكيلية والمهرجانات السينمائية والمسرح وهذه النقابات والاتحادات المستقلة تعتمد على إيراداتها الذاتية مع بعض المعونات الحكومية أحياناً وهي أفضل برامجها وأكثر نشاطاً وتنظيماً من المؤسسات الحكومية التي لديها ميزانيات ممتازة تخصصها الدولة لها، ومن هذه المؤسسات الثقافية الحكومية البيوت الثقافية المنتشرة في المحافظات والقصبات والعاملون فيها موظفون يتسلمون مرتباتهم من الخزينة في حين ليست هناك من رواتب لمن يعملون في الاتحادات والنقابات المستقلة والعمل فيها تطوعي على الرغم من الظروف الصعبة.
ثمة فوضى كبيرة في العناوين بين روابط ومؤسسات ودواوين ومنظمات ثقافية تحمل الثقافة عنوانا فقط ولا تقدم فعلا ثقافيا إنما هدفها الأول كسب المال.
ومن هنا نقول إنّ بعض المؤسسات لديها برامج وإدارات جيدة ولديها إحصائيات بعدد أعضائها ونوع تخصصهم وهذه في الغالب غير حكوميّة وأما الحكومية فهي غير فاعلة وغير واضحة البرامج وإداراتها رسميّة وتقدم فعلا ثقافيا محدودا، وكلها أي المؤسسات الثقافية، حكومية أو مستقلة لا تقدم فعلا ثقافيا يدرأ الخطر وبمستوى الطموح لأن الخراب كبير والفوضى عارمة.
ومن المؤسف جدا أن جمهور كل تلك المؤسسات من النخب وفي قاعات تكاد تكون مغلقة. نحن نحتاج الى ثورة وفعل ثقافي يكون في الشارع وأن نشرك الجمهور.
ثمة نرجسيَّة عند عدد من العاملين في الوسط الثقافي متأتية من تركيبتهم أحيانا أو بعضهم غير ممتلئ فاعتقد أنّه مبدع كبير.
أما بخصوص من يتمسّكون بالمناصب فغاياتهم تختلف وتتعدد منها لإبراز نفسه او لديه مشروع ورؤية او لمنافع شخصية كالمال أو السفر وما شاكل.