توطين المنهجيَّة العلميَّة

ثقافة 2024/08/29
...

  عبد الغفار العطوي

لغاية تأسيس توافق معقول بين الإرادة الحرّة للإنسان المعاصر في القرن الواحد والعشرين، وبين نظرية الاختيار، يجب أن يضع في عين الاعتبار ماهية الإرادة لديه، ومدى ما تتوافق مع  مفاهيم الضبط المنهجي العلمي وهو يقف أمام افتراضات يحسبها صالحة في ما يقدم عليه في طريقة الاختيار التي يأمل في التوافق معها في عملية الاختيار، أي أن يوطن له منهجيّة علميّة تجعل من نظرته نحو عملية الاختيار قائمة على وعي عقلاني حر.

إذاً ما هي الإرادة الحرة؟، يعرّف توماس ببنك "الإرادة الحرة" في مقدمة قصيرة بأنّها مشكلة أولاً وهي قديمة ثانياً، ولما كانت تمتاز من كونها ترتبط بالحرية التي لستُ مسؤولاً عن وجودها بمعزل عنك، فإرادتك بحاجة إلى مساعدة وفهم، كي تكون "الإرادة الحرة" من سماتك الأصلية، فتجعل اختيارك قائمًا على العقلانيّة البحتة "ستيفن بينكر العقلانيّة تعريفها وأسباب ندرتها وأهميتها" التي تذهب نحو الاحتكام إلى شروط العقل. فالعقلانيّة تنبثق من مجتمع أصحاب التفكير المنطقي يرصد بعضهم مغالطات البعض الآخر، ومن ثمَّ لا بدَّ من توفر عقل واعٍ وفقًا لكتاب "العقل الواعي لزولتان توري"، يُصحِّحُ عملية الموازنة بين الحرية التي تراها أنت في نفسك وبين جملة من التصورات النظرية في عمليات معقدة من الاختيارات العشوائية أو المفترضة التي تحتاج لعقل واعٍ ينظم كيفيّة التوافق بين الإرادتين التي لديك. وتعتقد أنّها حرة، وتلك التي لا سلطة لديك عليها، وتفكّر في جعلها ملك يمينك.
وفي المنهجيات الحديثة بطرق التفكير العلمي وفقًا لكتاب "التفكير العلمي فؤاد زكريا"، عندما نتعامل مع العلم في أبواب علومه المتعددة، تبرز نظرية الاختيار كتحدٍّ في مواجهة الحريَّة الإنسانيَّة وفقًا لكتاب "الحريَّة الإنسانيَّة والعلم مشكلة فلسفيَّة ليمنى طريف الخولي". في مسألة أو معضل الحرية في عالم العلم الحتمي، فإن ظهور الحتميات في تعاملنا مع العلم يتوجب الانتباه إلى المنهجية وفقًا لـ "في مفهوم المنهج العلمي يمنى طريف الخولي" أي أن نضع المنهجية العلمية طريقًا في دراسة فهم الإرادة الإنسانيّة التي ننشدها، وفهم أثر مفعول الحتميات على كيفية اختياراتنا، أي أنّنا نستخدم التوطين وفقًا لكتاب "توطين المنهجية العلمية، مقاربات فلسفية وتاريخية مستقبلية ليمنى طريف الخولي" في التفكير المنهجي الذي نستخدمه في نقد العالم اللا علمي الذي ما زال يشغل مساحات واسعة من عالمنا، ويحقق تقدمًا ملحوظًا في إسباغ الحقيقة الواهمة التي تمارسها نظريّة الاختيار على إرادتنا فتقيّدها بأوهام الحقيقة.
لهذا نحن نعيش دومًا في فتق فقدان الارادة الحرة لدينا، ومصداقيتها العقلانيّة، ومن ثمَّ لكي لا  نتوه في "نماذج العقل" المتعددة وفقًا لكتاب "نماذج العقل: كيف شكلت الفيزياء والهندسة والرياضيات فهمنا للدماغ لجريس لينزي" نقف عند نظرية الاختيار في تعميق فاعليتنا في وضع الحرية الذاتية إزاء العالم الحتمي الذي يشغله المجال العلمي، فالاختيار وفقًا لكتاب "نظرية الاختيار.. مقدمة قصيرة جدًا مايكل الينغهام" هنا تعتمد اعتمادا ضروريا على الرغبة، فحساب الرغبة لدى الإنسان المعاصر تقاس على وعي التفكير العلمي المؤهل لفرضيات الاختيار، ولا يمكننا أن نتوقع غير ما نحن رأيناه من خلال إرادتنا، لا سيما أن المعلومات التي نحصل عليها من تلك الاختيارات لا تتجاوز طبيعة الواقع الذي نعيشه وندركه وفقًا لكتاب "المعلومات وطبيعة الواقع من الفيزياء إلى الميتافيزيقا.. تحرير بول ديفيز ونيلز هنريك جريجرسن" هذا الإنسان الجديد الذي لم يكن يحفل في تاريخه الطويل القائم على الدوغمائية على العلم إلا قليلاً "نحن والعلم.. علي مصطفى مشرفة" لم يضع في حساباته التأليف العلمي ولا الثقافة العلمية، إنما كان شغله الشاغل البحث عن سجل تاريخي مشرف في تاريخ العلوم حسب "تاريخ العلوم اختراعات واكتشافات وعلماء لكلودبريزنسكي" فحسب، لأنّه كان يرى أن العلم يضغط بعالمه الحتمي على حقيقة وجوده الإنساني، ويدفعه نحو تقليص حريته، ومن ثمَّ تفكيره الخيالي، الإنسان المعاصر أحبَّ الفلسفة كحقيقة وجود، وهي وإن كانت صعبة المراس ومتعبة، خاصة حينما تواجه تحديات العلم، إلا أنّها يمكنها أن طريقة ناجحة من طرق الحياة الناجحة بحسب "الفلسفة طريقة حياة التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكوبيير ادو" لكن الخطوات الواسعة والجريئة التي خطاها العلم اجهضت طموح الإنسان في عملية حسابية للهروب من نظام العلم المعقد، وعزاؤه الانصياع إلى النداء الداخلي لحريته التي طالما شكلت حقيقة ما يرغب، وتأمل في  يقظة الذات وعمقها التجريبي النظري في تغيير مجرى حريته في الاختيار، لكن الذات سقطت في عالم براجماتي بلا حدود بحسب "يقظة الذات براجماتية بلا حدود لروبر تو مانجابيرا اونج"، ومن الصعب استعادة الإرادة حرة تلقاء نفسها، لأن هناك ستظهر حلقة من التخمينات تجبرنا على النزول تحت إرادة الحتميات التي تحدث عن جانب منها تيري ايجلتون المفكر الماركسي البريطاني في "مشكلات مع الغرباء دراسة في الفلسفة والاخلاق" واعتبر أن النظم الفلسفية والعلمية تتأثر بالجانب الأكبر منها بالنظر الأخلاقي، لهذا أوجد فرضية تتلخّص فيها أن معظم النظريات الأخلاقيّة يمكن تصنيفها ضمن أحد نظم أو مستويات التحليل النفسي الثلاثة لجاك لاكان؛ "الرمزي، الواقعي، والخيالي"، وهو ما يمكن تطبيقه على محنة الإنسان المعاصر في التأرجح بين إرادته التي يحس بفقدانها رويدًا في ما ينتهكه الغرباء "بالمعنى الاخلاقي" لتيري ايجلتون في تصنيفه للفلسفة والاخلاق وفقًا لمستويات جاك لاكان، من مساهمات فلسفية وأخلاقية لجملة من الفلاسفة "سبينوزا، كانط، شوبنهاور، كيركجارد، نيتشه، ليفيناس، دريدا، باديو" التي جعلتنا نحتار في فهم كتابات هؤلاء كأنّهم الغرباء الذين اختاروا الوقوف بفلسفاتهم ضد النزعة الأخلاقية، لنعي في آخر المطاف أن العلم الذي وصفه هيدغر بأنه لا يفكر هو الذي يجعلنا غرباء عن عالم الحتميات، فلا نستغرب أن نمضي مع المنهجية العلمية للتوافق بين حريتنا والعالم الحتمي الذي يفرضه العلم.