ابتهال بليبل
بشكل تدريجي، وعبر مئات الأعوام.. حاولت اللوحات، التي تجسد المطابخ تعطيل المدلول الترانسدنتالي أو المذهب المتعالي، والهيمنة على مدلولات مختلفة، كما يرى الفيلسوف إيمانويل كانط، فنراها بعد التركيز عليها والتمعن بها، وقد انتقلت لمعنى آخر ولمفهوم جديد، يلعب على وتر "قانون الآخر والمختلف"، ويعبر عن تحولات تتجاوز فكرة تجسيد الحياة اليومية في
الفن.
لقد خضعت المطابخ في تاريخ الفن لتشكلات مفاهيمية، احتضنت مجمل الثقافات والمعتقدات، وصاغت في فضاء الألوان خطابات جديدة أغلبها تتعلق بالجوانب السياسية والاجتماعية، من خلال طرح يقوم على إعطائها وظيفة التناقض. خلال منتصف القرن السادس عشر، بدأ فنانو عصر النهضة، ومنهم بيتر أرتسين، في إطلاق شرارة التغيير في رسم المشاهد اليومية، وخاصة المطابخ والطبخ, إذ طور أرتسين في الخمسينيات من القرن السادس عشر إنتاج صور للأثاث وأدوات الطبخ والطعام بذوق وواقعية كبيرة، مثل لوحة "المسيح في بيت مارثا وماري"، واعتمدت ثيمة المطبخ هذه على لوحات فنان آخر هو فرديناند فان كيسيل، الذي كانت معالجاته في القرن السابع عشر تتعلق بالخطيئة والأخلاق، منها لوحة "القردة تحتفل في المطبخ".
من الواضح أن المطبخ الفني يمتلك فاعلية تحيل بالضرورة إلى شيء آخر. لذا نجد عند الرسّام الفرنسي هنري ماتيس (1869-1954)، الذي يعدّ من كبار أساتذة المدرسة الوحشية. فكرة في الكثير من لوحاته تصور أدوات المطبخ من أوانٍ وصحون وطعام وغير ذلك. كان مفادها بأن يفكك ميتافيزيقا المتعارف باستعمال أدوات بسيطة. فانطلق عبر رسومات تظهر الوجه الآخر للفن، البهجة والحيوية
والمتعة.
وتلمّح الكثير من الأعمال الفنية عبر ثيمة المطبخ بشكل غير مباشر إلى الصّلة بين الهدم والاختلاف في سياق دلالي يُحيل إلى داخل الذات الإنسانية وليس خارجها، وتركز أيضا بتاريخ المطبخ وتقاليده وتطوراته عبر العصور. وتبدو هذه التحولات جليّة في الألوان وصولاً إلى الأثاث والأطعمة والخلفيات، التي اقتربت مجازياً من التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.