العلامة والرؤية «في انتظار فرج الله القهار»

ثقافة 2024/09/03
...

 محمد صابر عبيد

 تتمظهر الرواية الحديثة عادة باستظهار خصيصتين مركزيتين هما الصنعة الروائية واللغة الروائية، وهما أهم وأبرز عناصر التشكيل الحداثي للرواية، على الرغم من أن رواية ما بعد الحداثة غامرت بتجاوز هاتين الخصيصتين واشتغلت على تهشيم الصنعة الرواية وإغفال الالتزام باللغة الروائية ذات النزعة التقاليدية والتماسك العالي، على النحو الذي يستجيب للصنعة ومقتضياتها الفنيّة والجماليّة والتعبيرية والسيميائيّة، وبما 

يكشف عن هوية العلامة السردية وفعالية الرؤية السردية.


لا يسير التشكيل الروائي في رواية "في انتظار فرج الله القهّار" على وتيرة واحدة في بنائه السردي العماري، بل يشتغل على ممارسات كتابيّة حداثيّة تحاول تنفيذ أجندة فنيّة وفكريّة مسبقة ومخطط لها بمهل، مهّدت السبيل لقيام الكاتب باستخدام وسائل تعبير وتشكيل مختلفة تعبيراً عن زخم الحادثة الروائيّة وعمقها واتساع مساحتها التاريخيّة والجغرافيّة. وبالنظر إلى طبيعة هذا الثراء التقاني والأسلوبي في تشغيل سبل عديدة لتنفيذ المقولة الروائيّة، فإنَّ حاجة الرواية إلى قارئ يقظّ ومدرّب ليس سوى دليل على مهارة الروائي وبراعته في تشكيل نصّه الروائي على هذا الصعيد.  

اشتغلت الرواية على نظام المشاهد التي تشتغل بوصفها طبقات، وكل مشهد/ طبقة يقدّم رؤية خاصة ضمن الرؤية العامة للرواية، وكل مشهد/ كل طبقة يعتمد/ تعتمد هندسة معينة في تكوين نوع من الاستقلالية لمحورها السردي، وتنفتح على تواصل مستمر مع الطبقات الأخرى على نحو تشكيلي فدراليّ، وهو ما منح الرواية طاقة على التحرّك والتمظهر والدينامية أكّدت سعة الفضاء الروائي وعمقه 

وديناميته.

تندرج "في انتظار فرج الله" القهّار لسعدي المالح في سياق الرواية الحداثية التي تعتني كثيراً بالصنعة والإنصات لإيقاع الموروث، وتنفتح على شبكة تقانات تنطوي على لعب واسع وكثيف تكشف عن مهارة الروائي ومعرفته ورؤيته، وتحيل على تجربة ثرّة في العيش والاطلاع والتنوّع في المعرفة والحساسية والتداول والفهم، وتقدّم الفكرة في سرد رطب يدمجها في رطوبته فتتخلّى عن الكثير من جفافها ومنطقيتها، وهو ما يجعل السرد الروائي متماسكاً لا يشكو من أيّة خلخلة أو اهتزاز أو 

تفريط. 

 "في انتظار فرج الله القهّار" ليست رواية نسقيَّة على صعيد تشكيلها الفني والبنائي، وتقوم على آليّة اللعب المتناوب بعناصر التشكيل وتبادل الأدوار المنتجة بينها على نحوٍ ما، وكلّها آليّات تشكيل تُحيل على حِرَفيَّة الكاتب ومعرفته بشؤون الكتابة الروائيّة وتقاليدها ومشكلاتها، وإدراكه لقيمة توظيف التجربة الذاتية والموضوعية في تشكيل الرواية وبناء مستوياتها، وهي خاصية مهمة قد تغيب عن الكثير من كُتّاب الرواية حين لا يعون خطورة هذه العلاقة في بناء التجربة 

الروائيّة.

الرواية مؤلّفة من "12" مشهداً، يتمظهر أكثرها بأسلوبيَّة درامية تتمسرح فيها المشاهد من جهة، وتتمنتج في سياق تشكيلي واحد يخضع لعدسات تصوير تفصيليّة تسعى إلى التعمّق في باطنية المشهد وما ورائيته، ففي المقطع "7" من الرواية تتدخّل العازفة لتحاور الشخصية المركزية في الرواية بآليَّة مونتاجيَّة 

ممسرحة:

ـ اصح يا رجل إنك تدمّر حياتك .

ـ الإحباط هو الذي دمّر حياتي .

ـ أنتم الرجال دائماً لكم أعذاركم .

ـ عندما تضيع الآمال العظيمة .

ـ لكن لا يزال هناك أمل كبير .

ـ لم يعد ثمة غير الإحباط الكبير .

ـ لكننا عشنا ألف سنة من الانبعاث العظيم .

ـ سنعيش ألف سنة من الإحباط العظيم، انتكاسة تلو أخرى، اللهم إلا إذا ولد لنا قيصر جديد، قيصر يرسم لنا الآمال مجدداً .

ـ أجل يا عزيزي نحن بحاجة إلى قيصر وليس شهريار!

قال:

ـ أنتم بحاجة إلى الاثنين معاً، أو الاثنين في واحد .

وافقته وقبل أن أنهي معزوفتي سألته:

ـ هل أعيد إليك شهرزادك؟

ـ كلا لقد أعتقتها .

ـ لكنّها لم تكمل ليلتها الواحدة بعد الألف .

ـ لا داعي لأن تكمل لقد أكملت أنت .

ـ أنا لستُ شهرزادك! أنا بجعة مسحورة بيضاء في بحيرة زرقاء أستجير من ساحر جميل وقعت في فخّه .

ـ سأنقذك وأمنحك الحرية والحنان .

ـ لا ينقذني إلا من أسرني بسحره، ذلك الذي حوّلني إلى بجعة بيضاء وأهداني مع تلك الاسطوانة الرائعة ذلك الأمل الوديع.

 يكشف هذا الحوار الثري عن حضور شبكة من المرجعيات التي اجتهد الروائي في منتجتها ضمن سياق التعبير عن رؤيتين متناقضتين، رؤية الشخصيّة المركزيّة ذات المرجعيّة الشرقيّة المرتبطة بألف ليلة وليلة، ورؤية العازفة ذات المرجعيّة الغربيّة المرتبطة باستثمار سِفر ألف ليلة وليلة في موسيقاها، بوصفها مثالاً طريفاً يمكن التقاط فضائه لصوغ جمالي يعبّر عن قدرة الغربي على استثمار طاقة الشرقي.

لم يكن الحوار السرد - درامي الممنتج سياقياً على صعيد الفعل الروائي حوارا تقليديّاً سياقيّاً، بل كان حواراً يتجاوز الزمن والمكان لينفتح على التاريخي والحضاري، وكانت فعالية الراوي متبادلة بين الشخصية المركزيّة وشخصية العازفة، وكلّ منهما يقدّم رؤيته ويعكس فضاءه ويروّج لمقولته، وقد بدت شخصية العازفة أكثر تمكّناً في الإمساك بزمام المبادرة الحواريّة والهيمنة على مقدّرات التشكيل الروائي في هذا 

المشهد.