د. إسماعيل موسى حميدي
هل تعلمون كيف تحصر قصيدة الشعر ذهن كاتبها وهو يرممها ضمن سياق تفعيلاتها وبحورها، وهل تعلمون كيف تدور معاني الكلمات في مديات الفوضى حتى تستقر في أوزانها الشعرية، هل تعلمون كيف يتمخض عجز بيت في قصيدة حتى يولد متعسرًا ليكمل صدره.
وهل تعلمون ماذا تعمل القافية بالشاعر وهي تتقاطع مع حرف الروي في أحد أبيات القصيد التامة، وهل تعلمون معاناة الشاعر في استحالة تصافح نسق مضمر مع صورة عنيدة ترفضها الأوزان الشعريّة، وهل تعلمون ماذا يفعل اتساع المعاني وهو يتأخر بمجيئه في ذروة تدفق الشعر، هل تعلمون كيف تشبه حرب الزحافات بداية الجيوش المنهزمة وهي تتقاتل مع عللها، هل تعلمون كيف يتحول الشاعر إلى مخلوق آخر في دقائق كتابة القصيدة وكيف يكسر سلوكياته داخل نفسه حتى تولد المعاني التي تمتع المتلقي بصور جمالية غير مألوفة، هل تعلمون ماذا يحدث للشاعر القيمي عند كتابة قصيدة في الحب وهو يستحضر قوله تعالى "الشعراء يتبعهم الغاوون".
نعم، هذا وربما أكثر هو لسان حال الشعراء، في مهمة كتابة الشعر الشاقة، وما أثير مؤخرًا من سجال عن شاعرية الشعراء واستحضار سلوكياتهم، ما هي إلّا ردّات فعل شخصية تناولت بعض الشعراء لأغراض التسقيط أو الحسد وغيرها، وحقيقة نقول إن الشاعر الحقيقي كائن غير انهزامي أمام ما يقال عنه، لأنه صاحب قضية ومعنى، وهنا نخص الخنذيذ من الشعراء.
ويتحدد عمر الشاعر الزمني بمدة عطائه الشعري، أو بمعنى آخر بالمدة الزمنية التي يعيش فيها الشاعر في حياته، لا سيما إذا كان الشاعر ممن ينادل السلطة ويثبت دعائمها بشعره، وهذا حال أغلب الشعراء، فنادرًا ما تجد شاعرًا لم يغازل مجد سلطانه، بل سجل التاريخ أن معظم الشعراء يستهوون الجاه ويتقرّبون من سلاطين عصرهم، إلا ما ندر، بالوقت الذي تعمل تلك السلطات على إغرائهم بالمال والمناصب وتقرّبهم من أسوار عروشها، ما يجعلهم ضعفاء أمام شهوة مدح السلطان، ليكونوا في الأغلب جزءًا من سلطة النفاق، ولكن ما أن ينتهي عصر الشاعر الزمني حتى يولد من جديد أو بما يسمى بولادة الشاعر الأدبيّة، وهي ولادة حقيقيّة لشاعريته عندما تكون آثاره الشعريّة هي الحكم في جودة ما أتى به.
فحياة الشاعر الأدبيّة تبدأ مباشرة بعد مماته، لتعرض شاعريته على مائدة الأدب النقدي، فيميز الغث من الثمين، بزمن تتحكّم الكلمات وحدها بالمهني من الشعر، لأنَّ الإبداع يتسرّب في أوردة الجمال ويبقى سارياً في عروق المتذوّقين بغض النظر عن شخصية الشاعر النمطيّة أو سلوكياته غير المقبولة عند بعضهم. وهذا ما جعل آلاف الشعراء قد اندثروا وتفتت شاعريتهم الهزيلة بمجرد انتهاء حياتهم وعصر سلاطينهم، بل العكس من ذلك فهناك كثير من الشعراء الكبار ولودوا أدبيّاً بعد مماتهم، وهنا سيكون المحكك الحقيقي للشاعر، أما تضمحل شاعريته بسبب هزالتها، أو ولادته من جديد من خلال الإرث الحقيقي الذي يفرض نفسه في واقع الأدب، لتولد الأسماء الكبيرة التي تستوطن في قلوب المتأدبين.
قضية مهمة أخرى تثار عن أخلاق الشاعر وسلوكياته في حياته، ولسبب أو لآخر نجد الكثير ممن يستحضر أو يثير سلوكيات شعراء لغايةٍ ما، أجد أن ذلك ليس بذي جدوى وذلك للأسباب الآتية:
الأول: ثبت تاريخياً أن أغلب الشعراء يعيشون الخيلاء وتجد سلوكياتهم غير نمطية في العادة، لذا نجد من أتهم منهم بالزندقة ومنهم بالجنون والآخر بازدواج الشخصية، ولا يمكن إنكار هذا التمايز الخلقي تأريخيّاً، وقليلاً ما تجد شاعراً بشخصية نمطية وهذه حقيقة، فالزهاوي أتهم بالجنون، وبشارد بن برد بالزندقة، وأبو نواس بالفسق، والرصافي بالإلحاد وهكذا. ولو اجتمع كل علماء النفس، فلن يقفوا عند طبيعة سلوكيات الشعراء، ولو حددوها بتفسير كما تفسر حياة العوام لتوقف الشعر وماتت الكلمات.
وهذا يحيلنا إلى أن كل شاعر له فضاؤه الذي تنطلق منه كلماته، فهناك من الشعراء من يحول مرارة تجربته في الحياة إلى صفحات من الجمال، ومنهم من يلخص شروده الذهني إلى مواقف جديدة في الحياة، ومنهم من يترجم العقد الاجتماعية التي عاشها الى حاضر نفسي، ومنهم يخطف خيوطاً من خيال الآخرين فينسجها بقصائد شعريّة غاية في الجمال، وهكذا فلكلٍّ شيطانه الذي يلهمه الشعر بمزاج ومنهج مختلف.
ثانيا: طبيعة فهم الشعر وآليات صنعه، فالمتذوّق لا تعنيه شخصية شاعر ألقى قصيدة مذيلة بالجمال قبل قرنين من الزمن، لأن المتلقي يتعامل مع نصوص تؤثر به، ويمكن تشبيه الأمر بشخص يمتلك سيارة فارهة وهو منبهر بحداثتها، وهو حتما لا تعنيه شخصية صانعها، وأجد التشبيه قريباً من مطولة قصيدة مبهرة ألقاها شاعر في زمنٍ ما وخطف بها قلوب الناس لعميق ما فيها من صور جمال أو حكمة، والأمر سيان بين سيارة فارهة وقصيدة رائعة. تستطعم لذيذ صناعتها وأنت البعيد عن حيثيات شخصية الصانع التي هي خارج سياسة تعاملك مع المنتج. انتظروا موت الشعراء كي يولدوا من جديد.