أمير علي
يدانِ مرفوعتان للدعاء
ما أن تحضر ذات منكسرة في القصيدة حتى تقطع نصف الطريق إلى القلب. النصف الآخر يتكفل به الفن الشعري. لهذا فإن وقوف المرء في مقام الدعاء هو وقوف شعري كيفما كانت العناصر الفنية فيه. لأن محاولة التواصل مع ذات غيبيّة ومع آخر متعالٍ تطلق فوراً شحنتين لهما علقة قوية بجوهر الشعر: البراءة والاغتراب.
لا يرفع المرء يديه دعاء إلا حين تكون لديه مشكلة جذريَّة مع الحياة تلجئه إلى حياة أخرى وعالم آخر مباين، فهو مغترب هنا ويريد أن يرى ما يوجد هناك. ولا يتوجّه بطلبته إلى غيبٍ إلا وهو بريء يلتمس "ما لا نفع فيه"، بالمعنى الذي قال عنه هيدغر "إن الضروري هو ما لا ينفع".
والقصيدة براءة مغتربة، أو اغتراب بريء. وحين تأتيك نصوص شاعرٍ ساعٍ إلى أن ينشئ يداً ممدودة إلى الغيب في قصيدته؛ ستعرف أنه مدرك للأوبئة الذي تجتاح الشعر والشعراء قديماً وحديثاً من لغة وثوقية وخطاب آتٍ من علٍ وذوات تمشي ومعها مكبرات صوتها. يدرك ذلك ويريد التخلص منه بإنشاء همسٍ يناجي به آخره الخاصّ، ولغة تستوطن الظِلال وتهرب من النور والظلمة معاً، لغة هي يد مرفوعة للدعاء.
هذا الشاب أمير عليّ يشبهني. ولهذا يصعب عليّ أن أتحدث عنه مطولا. لأني أتحدث عن صنيعه الشعري فأشعر كما لو أني أتحدث عن صنيعي. غير أني أحبه، أحبّ لغته وقاموسه وحريته في مد جملته خارج قالب شعري أليف، وأحب خصوصاً اعتناءه بـ "الحجر الذي رفضه البناؤون" في قصيدته، أعني الملمح الدينيّ، والديني ـ المضاد.
هل في قصائد أمير أصوات خفيضة تأتي من آخرين؟ ربما. ولا بأس في ذلك. هو في أوان اللعب ومن حقه الاعتداء على ممتلكات الشعراء لبناء مملكته.
أحمد عبد الحسين
تذكروا أسماءكم
فاتني نداءُك الخافتُ أيّها الغدُ، ولن تجيبني إذا قلتُ كلمتيْ.
فاتني نداءُ الأمس ولن أجيبَ إذا سمعتُ صداه الآن.
لكنْ ما الآن؟
حاضرٌ أدفعه كلَّ صباح
وأتنفّسُ شهيقَ الفردوس منه بعد أن قضمتُ تفاحة وقتي.
لماذا كلما تهيأتُ وتركتُ خلفي البابَ
عابراً نحو الحقيقة
جيوشُ وهمك تغرس رماح اللهب في صدري لأعود إليك؟
مَنْ أنت وما تريد ولماذا الآن؟
ألا تعلم أن سقف الوقت مرتفع
وعمري أقصرُ من أن أخوضَ فيه حربَك؟
هبني أبديتَك، هبني كلمتَك، امنحني سُكرَك المعجونَ في أصابع ناقصاتِ العقولِ وهنّ يُقِمنَ العزاء في قلوب أبنائك،
هبني ضنكاً ناعماً كموت شجرة
ولا تدعْ اسمي تلوكه ألسنة الحائرين
لأنَّ اسمي يُذكرني باسمي لا بمَنْ يسمّيني
وأنت تعرفُ ذلك كلّه.
قولٌ على قول
أهتفُ باسمك يا موتُ كلما مسَّ صدري هواءُ مكائدك
أحقادي على دنياك لم تنضج بعدُ
وقد شربتُ من ينبوعك حتى ارتويت
فأرعَبني ضحكُ مهرّجك الذي أخبرني توّاً بأنّ ما شربته كان سُمَّاً.
مكائدك حفظتها ووجوه أنبيائك منطفئ سراجُها
حتى صرختُ: أين شوكتُكَ يا موت؟
أين قدرتكِ يا هاوية ؟
وما من مجيب.
قرآنك معي إلى أن تبلغ التراقي
لكنّي بلا راقٍ وقد فتحتُ ذراعيّ وأغمضت عينيّ
وهمست: يا قادر
يا صاحبَ الـ"كُنْ"
لا تجعلْها لا تَكُنْ.
امنحني السكينة قبل أن تغرس سيوفك في عين البهجة
امنحني السكينة قبل أن تجرحني خناجر الرفيق،
ولا رفيقَ لي سوى الزمن الذي يقطّع أطرافي.
امنحني السكينة قبل أن ألوّثَ بفمي كلماتك في ليلي الحالك،
لأنّ روحي ناقصة وقصيدتي قولٌ على قول
وعقيدتي ينخرها الشك
وفراشي بارد.
ضعْ يدك على كتفيّ وافتح تلك القنطرة المردومة بيني وبين نفسي
مدّ يدك وامحُ اسمي من لسان الآن وأنطقه على ألسنة الغيب
ودع أهلي يحرقون فراشي مرةً وإلى الأبد.
إكليل الشوك
جئتك أفتتح الثناء بحمدك.
أناجيك وقد مسّني زفير الشرّ.
ساعةُ جنّتكَ معطلة
لكنّي أدخلُ من بابَ رحمتك بيساري
وأخلعُ عن ملائكتك أجنحةَ السراب بيميني
وأصيحُ:
يا مهيمن
لماذا كُنا؟
ولماذا كلما انفجر ينبوعُ الدمع قهقهت؟
يديْ التي أرفعها إليك كلّ صباح
وألطمُ بها خدَّ براءتي كلّ مساء
وأطعنُ بها ما أشاء
وأعينُ بها مَن أريد
قابضة على أكليل الشوكِ المسموم.
عيني المخدوشة تُبصرُ
وروحي الناقصة تُريد
وجسدي المردوم بالحقائق
أثقل من كلمةٍ ضاعتْ سدى.
ماذا أصنع وقد داست الوحوش على اسم الوردة؟
بسمك اللهم أقولها كلّما رفعتُ عصاي أهشّ بها على قطعان النوم
وبسمك اللهم أقولها كلما مسَّ جفني خيطُ شمسك.
لكنّ شمسك الأبديَّة كومة أخطاء.