أمين قاسم الموسوي
المسابقة الأدبيَّة لنتاجات الأدباء الشباب خطوة حميدة من خطى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، لأنها علامة من علامات الصحة والعافية، فهؤلاء الشباب هم أدباء المستقبل، وقد كانت القصة القصيرة الحقل الذي نال كثيراً من الاهتمام والحراك، فغدت أسماء شهد الزبيدي ومآب عامر ورأفت عادل معروفة في الوسط الأدبي وصارت نتاجاتهم بين أيدي القراء مطبوعة من قبل الاتحاد.
وكم كان أحلى وأَنفع لو اقترن بمجموعة كل اسم من الأسماء الفائزة تعريف موجز بشخصية القاص تحت صورته في الغلاف الأخير بدلاً من كلمة الاتحاد التي من الممكن وضعها داخل المجموعة، في مقدمتها.
بعد قراءة المجموعات القصصيَّة ثلاثتها، لاحظتُ :
أولاً: شهد الزبيدي (عند أطراف القرى): مأخوذ عنوانها من قصة في المجموعة نفسها، وهي قصة تدور أحداثها في فضاء سردي أَوربي، مكاناً وأحداثاً وأسماء شخصيات، فالقرى قرى فرنسية، وكل المجموعة تتسم بأجواء غير عربية، عدا قصة (مئتان وخمسون دينارا) وقصة (بائع الشاي) الغامضة، يبدو لي أن القاصة عاشت في تلك الأجواء وتأثرت بها واقعاً أو تخيلاً، حتى أنَّ أ.د. سمير الخليل أشار إلى هذه الظاهرة في جلسة تكريم الفائزين في اتحاد الادباء، وتساءَل عن الأسماء الأجنبية، والكاتبة حتى في اهدائها لمنجزها القصصي هذا استعارت وصف أمها بـــــ (المرأة الحديديَّة) وهو الوصف الذي اشتهرت به رئيسة وزراء انگلترا (مارگریت تاتشر)، ولا ضيرَ في هذا الاتجاه عند شهد الزبيدي، ولكن غوص الكاتب في أعماق مجتمعه هو الذي سيمنحه تميّزاً بمحليته، ولذلك حينما سُئل الروائي الكولومبي (ماركيز) عن منبع هذا السرد المدهش في رواياته خصوصاً (مئة عام من العزلة)، قال (إسألوا جدتي) مما يعني اعتماده المحليَّة، إِذ من المؤكد أن جدّته كانت تسرد حكايا كولومبية، وظّفها ماركيز لتصوير بيئة مجتمعه، وقد بات معروفاً أن المحليَّة هي المنطلق نحو العالميَّة.
من محاسن شهد الزبيدي أنّها تهتم بتعليل الحدث فيأتي مقبولاً منطقياً، مقنعاً المتلقي، وهذه مسألة من أهم مسائل السرد الناجح، وهي التي تشد حبل السرد فتجعل القصة متماسكة محبوكة بداية ونهاية، فتنتهي بلحظة التنوير، وهذا البناء القصصي مشدود الى مبادئ القص التي غادرها بعض أهل الحداثة، ولعل قصة (كف) أنموذج في البناء الناجح لتجسيد المحتوى الفكري التربوي، أما الإطار العام لأفكار شهد الزبيدي، ففيه إشارات إلى تأثرها بفلسفة (نيتشه) في ثورته على التقاليد والمعتقدات البالية، خصوصاً فيه قصة (الذئب) التي تدور في آفاق (نيتشه) في (هكذا تكلم زرادشت)، إذ فيها تشريح للنفس البشريَّة التي تحمل الطبيعة الذئبيَّة، ولا خلاص إلا بالعودة الى جوهر الإنسان وبشريته.
ثانياً: مآب عامر (تنورة جينز قصيرة): هذا هو العنوان الذي اختارته مآب عامر ليكون ثريا مجموعتها هذه، وهو عنوان القصة الثانية في المجموعة، وقد كان الاختيار موفقاً، لأن العنوان هو العتبة الأولى الممهدة للدخول الى مجمل العمل الأدبي، وما اختارته مآب عامر عنواناً لا يخص القصة الثانية وحدها بل فيه إشارة مضيئة الى زمان وأحداث مجمل قصص المجموعة، فهو يشير الى الحداثة وموضوعاتها فالأزياء دالة على إنسان عصرنا خصوصاً ما يتعلق بأزياء النساء حتى أن الإشارة الى تلك الأزياء جرس يرن في أذن المتلقي مشيراً الى الحداثة التي نعيش عصرها وأحياناً نتجاوزه الى ما بعد الحداثة، نجد هذه التنورة في قصة (خصلات)، فهي (تنورة خضراء قصيرة)، وفي قصة (شارع) يظهر (بنطال جينز أبيض)، وفي قصة (فراش ساخن) (بيجامة قصيرة وقميصاً ضيقاً)، ولا نعدم هذا اللون من الأزياء في قصص أخرى مما يشكل علامة عند القارئ مفادها: ان هذه القصص ابنة عصرها ومجتمعها، ابنة زمن صارت فيه الكاتبة شاهداً رأى وعانى ثم كتب، وهي لا تبقى على سطح الشكل والأزياء بل تغوص في أعماق مجتمع عصرها، كما هو الحال في قصة (اكسيليفون) التي جسّدت الصراع الاجتماعي بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، فأدانت الفتاتين اللتين ترفضان أن تأخذ الطفلة الفقيرة بقايا (الكيك)، وقارئ المجموعة سيجد نفسه في أجواء المجتمع العراقي المعاصر، بل سيجد بغداد بكل سماتها المعاصرة، ولا شك في أن هذه مسألة مهمة انمازت بها مآب عامر، أَما أسلوبها فغالباً ما تعتمد عين الكاميرا، متنقلة هنا وهناك، مؤثثة الفضاء السردي بوعي، فهي: (تراقب التفاصيل كلها، كل ما لا يدور حولها، وكأنّها مجرد عين للكاميرا تسجل ما يزول من لحظات الحياة) ص71 فهي سيناريست، حتى اذا ما أراد مخرج أن يصور لقطة، فإنّه لا يحتاج إِضافة، إِذ كل ما سيظهر في اللقطة قد أشارت إليه الكاتبة: (الغبار يزداد كثافة، كأنّه شرشف رمادي يغطي كل زاوية، فوق، تحت، تتربّع فتاة في جلستها متكئة على وسادة ذات لون مغبر أيضاً، خلفها حائط ملوث ببقع سوداء مبهمة)، وهكذا يستمر المشهد بأسلوب يذكرنا بالشيئيَّة عند ألن روب غرييه وناتالي ساروت، مما يدعونا إلى القول: إنَّ مآب عامر اكثر التصاقاً بالحداثة من زميليها الآخَرَيْن.
ثالثاً: رأفت عادل (ضحكات شوبنهاور السعيد)، هذا هو العنوان الذي اختاره رأفت عادل لمجموعته ليكون ثريا وعتبة لنصوصه، لم يكن هذا العنوان عنواناً لواحدة من قصصه التي احتوتها المجموعة، ولذا من حق القارئ أن يسأل عن علاقة هذه العتبة بمجمل قصص المجموعة التي بلغت ست عشرة قصة، فشوبنهاور فیلسوف بولوني المولد ألماني الجنسية، كان متشائماً حتى لقب بفيلسوف التشاؤم، وكان ملحداً، وقد تساءلتُ باحثاً عما يربط المجموعة بهذا الفيلسوف فلم أجد ضحكاتٍ ولا شوبنهاور سعيداً، وإنما وجدت القصص تحمل هماً اجتماعياً وطنياً سياسياً مصطبغاً بحب آل البيت وهو ما يناقض أفكار شوبنهاور، وقد صاغ رأفت عادل هذه الأفكار لتعبر عن حبه وارتباطه بهذا الوطن ورموزه، وإدانته لكل ما يلوثها، مفعِّلاً مخيالَه الواسع في الربط بين أحداث قصصه معتمداً النسق التقليدي في البداية والنهاية التي غالباً ما تكون هي لحظة التنوير لما جرى في القصة.
اهتمَّ الكاتب بالحيوانات، فكانت من شخوص قصصه، كما في (حرب مع الفئران) التي وفق فيها في الإمساك بخيوط السرد ونسجِها بانسجام، ونجد حيوان الكلب في (صديقي الكلب) و (ديناصور أَخضر) والقطط في (بناية قديمة).
عواطف رأفت عادل الجياشة وأفكاره المحمودة قد تجره احياناً الى الأسلوب المباشر، فتفقد الخيط الذي يستثمرها الى روح الفن، كما هو الحال في قصة (قيد بريء) فهي ذات فكرة إنسانية إلا أنها جاءت خطابية مباشرة.
في المجموعة أربع قصص قصيرة جداً، وهي تختلف في تجنيسها عن القصة القصيرة.
ختاماً وجدت عند المبدعين ثلاثتهم بعضاً من الأخطاء اللغويَّة في قواعد اللغة العربيَّة، نحوها وصرفها، فكانت أعشاباً ضارة في حقل الإبداع، والتخلص منها سهل وذلك بعرضها قبل نشرها على مختص في اللغة. كل التوفيق للفرسان الثلاثة، ونحن بانتظار جديدهم في مضمار الإبداع عسى أن يتجاوز ما سبق شكلاً ومضموناً.