كاميل كلوديل: ثورة ضد الطبيعة

ثقافة 2024/09/04
...

فرح بيترسون*

ترجمة: مي إسماعيل

عام 1892 قدمت النحاتة الفرنسية “كاميل كلوديل- Camille Claudel” طلباً إلى وزارة الفنون الجميلة الفرنسية للحصول على كتلة من الرخام. وكما جرى العُرف؛ أرسلت الوزارة مفتشاً ليتفقد عملها المُخطط  ويقرر ما إذا كانت تستحق دعم الدولة. كتب المفتش أن نموذج الجص الأولي الذي يُصور رجلاً وامرأة يرقصان الفالس هو “نموذج موهوب”.. وحتى مُعلمها “أوغست رودان” لم يكن بإمكانه أن.. “يدرس بمزيد من البراعة الفنية والوعي الحياة المرتعشة للعضلات والجلد”. ولكن؛ ورغم أن الوزارة أجازت أعمالاً ذات طبيعة حسيّة لرودان في تلك الحقبة؛ فقد رفضت دعم مثل تلك الأعمال لنحاتة امرأة؛ بالقول إن.. “وقفة الراقصين كانت حميمية لأجرأ مما ينبغي..”.
قضت كلوديل أشهراً أخرى لتطوير نموذج “يُخفي” قوام المرأة؛ وكانت النسخة البرونزية الناتجة بعنوان: “الفالس” بمثابة انتصار فني .ـ عمل أثيري من الرومانسية والطلاقة والحركة الإنسيابية.. أصبح “الفالس” أكثر أعمال كلوديل شهرة، أُنتجت منه نسخاً عديدة في إصدارات مختلفة، جمِع البعض منها في معرض جديد لأعمال كلوديل، جرى افتتاحه في معهد شيكاغو للفنون العام الماضي.. ولكن كلوديل لم تحصل قط على الرخام الذي تقدمت بطلب للحصول عليه!
صناعة الاسم
بذلت كلوديل كلَّ جهدٍ ممكن لتصنع لنفسها إسما فنياً؛ غير عابئة بالأعراف والتقاليد التي كانت تقيد عصرها. ورغم أنها نالت الثناء في ذروة حياتها المهنية القصيرة؛ إلا أن سُمعتها تلاشت خلال عقود بعد وفاتها. ورغم الاهتمام المتجدد بأعمالها خلال ثمانينات القرن العشرين؛ فإن قصة حياتها المضطربة ودور “أوغست رودان” فيها كانا سبباً لصرف الانتباه عن فنها؛ وخاصة في الولايات المتحدة. يقــول “ه. و. جانسون” مؤرخ الفن في كتابه الشهير “تاريخ الفن”: “..يمكن أن يجري نسب خيرة أعمال كلوديل إلى رودان”؛ ولكن لا يمكن تجاهل مجموعة أعمال كلوديل بسهولة؛ خاصة استحضارها الحساس والمؤثر لدواخل حياة المرأة. وذلك المعرض الأخير يؤكد على موقع  كلوديل بين أعظم النحاتين الفرنسيين للقرن التاسع عشر. يحفّز المعرض التأمل؛ ليس فقط بأن أعمال كلوديل (التي تنوعت بين الطين والجص والبرونز والحجر) تقدم موهبة متفردة؛ بل التصميم الاستثنائي الذي تطلبه تحقيق نجاحها.. حينما طاردها رودان كي تصير عشيقته؛ طلبت منه أن يدعم مهنتها الفنية، وأسقطت جنيناً حملته خلال تلك المرحلة؛ ولم يكن ذلك بالأمر السهل.. وفي السنوات التي أعقبت نهاية شراكتهما؛ أنتجت كلوديل بعض أكثر أعمالها تأثيرا.
لكن كلوديل بقيت؛ رغم كل شيء؛ تعتمد على الرجال الذين كانوا في حياتها؛ من أجل الرعاية ومواد العمل، وفي النهاية- من أجل حريتها نفسها.. فبسبب تصرفاتها المضطربة عمدت أسرتها؛ بقيادة أخيها “بول” إلى إيداعها مصحاً عقلياً وهي في الثامنة والأربعين من العمر.. وهناك بقيت (بعد فترة طويلة من دفع الأطباء للإفراج عنها) حتى وفاتها بعد 30 عاماً؛ سنة 1943. وهو ما رأى شقيقها أنه كان بمثابة تكفير عن الإجهاض.. لم تقدم كلوديل أعمالاً اخرى بعد المصّحة؛ لكن المعرض يتركنا نتساءل عما كان بوسعها أن تعرضه لو سُمح لها بمواصلة رؤيتها..
حس جمالي عابث
كانت موهبة كلوديل واضحة فعلاً حينما وصلت إلى استوديو رودان نحو عام 1884؛ ويرى “ماتياس مورهارت” الناقد الذي تابع مسيرتها المهنية عن كثب، أن رودان.. “لم يعد معلماً لها على الفور؛ بل بات أشبه بشقيق للفنانة الشابة التي أصبحت لاحقاً زميلة عمله المخلصة الذكية”. بات رودان يستشير كلوديل حول.. “كل شيء.. كل قرار..”؛ ولا يشرع بالعمل حتى.. “يصبح الاثنان على اتفاق حول الموضوع”. ولعل المتابع لمسيرتها المهنية قد يجد الأمر واضحاً في معرض أعمالها الأخير بشيكاغو. يبدأ المعرض بالأعمال الأولى لكلوديل؛ ولعلها منحوتات رآها رودان في لقائهما الأول عام 1882؛ حينما كانت طالبة فنون في السابعة عشرة وهو فنان في الحادية والأربعين بدأ يتمتع بنجاحه التجاري. هنا نرى تمثال “الروماني الشاب”، وهو صورة كلوديل الرقيقة لبول؛ الأخ الذي سيصبح سجانها. أظهرت كلوديل بالفعل حسها الجمالي العابث؛ حينما قامت بتسطيح جبين أخيها وتوسيع خطوط خديه لتقليد الشبه الروماني المثالي بأفضل شكل؛ مع الحفاظ على التفاصيل المميزة لوجهه: الالتواء الطفيف في شفته السفلى وشحمة أذنه الطويلة، ونظراته الساهمة. وليكتمل الانطباع الكلاسيكي قامت كلوديل بطلاء النسخة المصنوعة من الجص من ذلك التمثال لمحاكاة طبقة البرونز القديمة التي قد تتكون حينما تكون القطعة مغمورة في مياه البحر، مع أطيافٍ خضراء وصفراء؛ ربما حيث استقرت في قاع البحر الأدرياتيكي.
رغم أن أعمال تلك الحقبة تكشف إمكانيات كلوديل الفنية؛ لكن صعود مكانتها لم يكن أمراً مفروغاً منه.. حينها كانت الأفكار النسوية المبكرة قد بدأت تنتشر في المقاهي وقاعات المحاضرات، بل حتى في الصحافة الشعبية؛ لكن كثيرين في فرنسا نظروا إلى طموح مثل طموح كلوديل بعين الريبة والشك. وبالنسبة للبيروقراطيين المسؤولين عن توزيع الدعم الحكومي الحيوي لفن النحت؛ كانت المرأة تُعتبر متطفلة في مجال الفن الذي يهيمن عليه الرجال. من هنا لم تكن الدعوة للعمل في استوديو الفنان رودان مجرد فرصة للتعلُّم؛ بل كانت بمثابة شريان حياة أتاح لكلوديل الوصول إلى المواد الباهظة الثمن وتكليفات العمل واسعة النطاق التي احتاجتها من أجل ترسيخ نفسها كفنانة.
لا شك أن وضعها القَلِق لم يكن بعيداً عن ذهن كلوديل حينما بدأ رودان بملاحقتها بلا توقف بعد فترة وجيزة من بدء عملها معه. وسرعان ما أصبحا عاشقين.. لكن يبدو أنها وضعت شروطاً معينة؛ إذ جاء في وثيقة وجِدَت بين أوراقه أن رودان وافق على الترويج لأعمال كلوديل بين أصدقائه المتنفذين ودفع كلفة تصويرها بشكل احترافي، واستبعاد طلابه الآخرين؛ كما كتب.. “لكي يتجنب مخاطر المواهب المُنافِسة؛ رغم أنه من غير المحتمل أن نصادف ((فنانة)) موهوبة بشكل طبيعي ((مثلها))”. بالمقابل كان على كلوديل السماح له بزيارة مشغلها أربع مرات شهرياً وأن تعيش معه أجزاء معينة من العام. لم يتزوج الاثنان أبداً، ولم يحسم رودان رأيه حول قطع علاقته مع عشيقته الأخرى “روز بورييت” التي أنجب منها ابناً؛ لكن التحالف الإبداعي والرومانسي بين كلوديل ورودان دام عقداً من الزمان تقريباً.
“إمرأة جاثمة..”
تُظهِر أعمال كلوديل خلال سنوات وجودها في مشغل رودان عمق تعاونهما الفني وانبثاق منظور كلوديل. ورغم أن البعض ينظر إلى أسلوبها أحياناً على أنه تقليد لأسلوب رودان؛ إلا أن القائمين على المعرض ومنهم “إيمرسون بوير” (أمين متحف سيرل للرسم والنحت الأوروبي بمعهد شيكاغو للفنون) و”آنا ليز ديسماس” (أمين أول /رئيسة قسم النحت والفنون الزخرفية بمتحف جيتي) يوضحان بشكل مقنع أن التأثير والاقتباس كان متبادلاً بكلا الاتجاهين.. فهناك تمثال “اليد” البرونزي المُعبّر من تصميم كلوديل الذي يستحضر اهتمام رودان المعروف بهذا الموضوع. قد يبدو هذا اشتقاقاً لفكرة من فكرة أخرى؛ حتى نكتشف أن كلوديل نفذت العديد من أيدي وأرجل منحوتات رودان حتى اشتكت أن انشغالها بتلك المنحوتات لم يترك لها وقتاً لأعمالها هي. وهناك أيضاً تمثال كلوديل من الطين لفتاة صغيرة تحمل حزمة من الحشائش، والذي يُعرض غالباً جنباً إلى جنب مع تمثال جالاتيا الرخامي الشهير لرودان.. وبينما يؤكد التشابه الكبير بين التمثالين تأثير رودان في أعمال كلوديل؛ علينا أن نتذكر أن تمثال كلوديل لم يكن نسخة بل سبق تمثال رودان زمنياً. لكن الأسلوب الفني للإثنين تنوّع في الوقت نفسه من نواحٍ مهمة؛ وكان ذلك واضحاً بشكل لافت للنظر في تصويرهم للنساء.. فهناك تمثالا “المرأة الجاثمة” لكلا الفنانين.. متشابهان بالموضوع ومختلفان في التأثير النهائي.. تبدو امرأة تمثال رودان جاثمة بوضع وحشي وغير متوقع.. رقبتها مشدودة للأمام وعيناها مغلقتان وركبتاها منحنيتان.. لعل رودان التقط فكرة؛ لكنه لم يُصوّر إنساناً؛ بل ما أسماه أحد النُقّاد: ضفدعة”!. يُشدد بعض النُقاد على أن كلوديل اتخذت من عمل رودان مثالاً لها؛ لكن نظرة إلى امرأة كلوديل الجاثمة تُبدد أي فكرة كهذه.. تتكوّر امرأة كلوديل على نفسها، وتشبك ذراعها على رأسها مغطية وجهها بحركة توحي بحماية وطمس الذات. تصوّر طيات الجلد في البطن والذراع التي ترتكز على الركبة، والفراغ بين أجزاء العضلات واقعية رسمٍ مذهلة وكأنها قابلة للحركة..
استكشاف الغرابة الأنثوية
نالت أعمال كلوديل استحساناً في معرض “صالون الجمعية الوطنية للفنون الجميلة عام 1893”؛ وكان من بينها منحوتات: “الفالس” و” كلوثو-Clotho” (= شخصية من الأساطير اليونانية القديمة، تغزل خيط الحياة البشرية. المترجمة، عن موسوعة ويكبيديا). وهذه الأخيرة أظهرت أن كلوديل لم تخجل من استكشاف الغرابة الأنثوية، وأنها قادرة على إيجاد القوة في الغرابة. وبعد عقود من نحت الحوريات الرشيقات والنساء المهيبات وآلهات اليونانيات الممتلئات؛ فإن تمثال كلوثو مبهج بسبب عدم اكتراثه التام بالنظرة الذكورية. شكّل نجاح كلوديل في صالون 1893 بداية فصل جديد في حياتها؛ إذ قدمها مكانها في استوديو رودان لشبكة من الفنانين والصحفيين وجامعي التحف، الذين أصبح العديد منهم من المؤيدين الدائمين لها، مما ساعدها على وضع منحوتاتها في المتاحف والفوز بالعمولات والرعاة. لكن كلوديل كانت قد بدأت تشعر بالامتعاض من رودان؛ فاتخذت خطوات لإنهاء علاقتهما وانتقلت إلى استوديو خاص بها، عازمة على إثبات جدارتها الفنية المستقلة.
مع نيلها استحسان النقاد، حيّرت موهبة كلوديل العديد من معاصريها؛ فوصفها أحد النقاد البارزين بأنها “ثورة على الطبيعة: امرأة عبقرية”. وتلمس آخرون طريقهم لوصف قوتها التعبيرية؛ فانتهى بهم الأمر أحياناً لوصفها بأنها “ذكورية”.. وبدلاً من إعطاء كلوديل حقها، استمر البعض بإيجاد سهولة أكبر أن ينسبوا نقاط قوتها إلى وصاية رودان.  وأخيراً أعلن أحد النقاد أنه.. “لم يعد بإمكاننا أن نسمي الآنسة كلوديل طالبة لرودان؛ بل هي مُنافِسة”..
كان لرودان ذاته مشاعر متضاربة بعد ظهور كلوديل كنحاتة عظيمة بحد ذاتها؛ إذ قال عنها في شيخوخته: “عندما تمتلك النساء البرونز والرخام والطين، وهي المواد التي تُصنع منها الإبداعات، فإنهن يجدن في النحات حبيباً فقيراً جداً!”.. ولعله كان يشعر بالقلق إزاء إبداعها؛ وهو جزء منها لم يستطع السيطرة عليه قط.. ورغم أنه أراد تكريم كلوديل حينما خصص قاعة لأعمالها في متحف “رودان”؛ فإن أحد آثار هذا القرار هو ضمان دمج إرثها الفني مع إرثه لزمن طويل..

*استاذة ومؤرخة بجامعة شيكاغو
- موقع “ذا أتلانتك”