د. صباح التميمي
من أثرى التركات النقديَّة التي أورثها لنا الأجداد، ما يمكن أن أسميه "فن الوصايا النقديَّة"، واجعل وصيّة أبي تمام للبحتري مثالا حيّاً له، فعلى الرغم من أنها ترتبط بإطارها الزماني، وتصدر عن خصوصيات ثقافة ذلك الإطار، إلا أنها بروتوكول فني يؤشر استراتيجيات الكتابة الشعريَّة العامة العابرة للأزمنة، ويمكن لأي شاعر مبتدئ أن ينتفعَ بخطابها الموجّه العام.
متن الوصية: "يا أبا عُبادة،
1 - تخيّر الأوقاتَ وأنتَ قليلُ الهمومِ، صِفْرٌ من الغموم، واعلم أنّ العادةَ جرت في الأوقات أن يقصدَ الإنسانُ لتَأْلِيفِ شيءٍ أو حفظِه في وقتِ السَّحَر؛ وذلك أنَّ النفسَ قد أخذتْ حظَّها من الراحة، وقِسْطَها من النوم.
2 - وإن أردتَ التشبيبَ فاجعل اللفظَ رشيقاً، والمعنى رقيقاً، وأكثِر فيه من بيان الصَّبابة، وتوجُّع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق.
3 - فإذا أخذتَ في مديح سيّد ذي أبادٍ فأشهِر مناقبَه، وأظهر مناسبه، وأبِنْ معالمَه، وشرف مقامه.
4 - ونضّد المعاني، واحذر المجهول منها، وإيّاك أن تشين شِعرَك بالألفاظ الرديئة، ولتكُن كأنّكَ خياطٌ يقطعُ الثيابَ على مقاديرِ الأجساد.
5 - وإذا عارضكَ الضجرُ فأرِحْ نفسَكَ، ولا تعمل شعرك إلا وأنتَ فارغُ القلبِ.
6 - واجعلْ شهوتَكَ لقولِ الشعرِ الذَّريعةَ إلى حسن نظمه؛ فإنّ الشهوة نعم المُعين.
7 - وجملةُ الحال أن تعتبرَ شعرَكَ بما سلفَ من شعر الماضين، فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه، ترشد إن شاء الله".
زهر الآداب وثمر الألباب، ج١ ص 152 - 153 ط دار الجيل/ بيروت، شرح د. زكي مبارك.
ولي في هذه الوصية العظيمة ملحوظتان:
الأولى: إنّها عامة، تنفع كلّ المشتغلين في صنعة الكتابة.
والأخرى: إنّ القدماء من شعراء التراث، كانوا يحترمون الأجيال التي سبقتهم، ويجعلون للعلماء بالشعر (النقاد) وزناً، وهذا قد تبدّلت حاله اليوم، فكل جيل بما لديهم فرحون، وترى الجيل اللاحق يهدم مباني السابق، وبات الشاعر ينظر إلى الناقد الذي لا يكتب عنه حلقة زائدة، والذي يكتب عنه ناقداً حاذقاً حاز قصب النقد في زمانه، وفي الأمرين يكونُ مغالياً للأسف.
ترى الجيل اللاحق يهدم مباني السابق