محمد غازي الأخرس
حسناً، الصمت والثرثرة ضدان، كلُّ يناقض الآخر، ثمة صامت يتكلم بيده وعمله، مقابل ثرثار يتكلم بلسانه. لطالما لاحظنا ذلك في الناس، تنظر إلى هذا فإذا به صامت ينظر بعينيه فقط، لكنك حين تزوره في مكان عمله تعجب عن ثرثرة جسده وهو ينجز الأعمال المناطة به. بالمقابل، تستمع لنقيضه الذي يجلس معك فتكاد "تنسطر" من ثرثرته عن أفعال سيقوم بها ومنجزات سيحقّقها، وإذا تحاول العثور على منجر له تعجز تماماً، ذلك أن اِنجازه يتحرر في الكلام. في الكناية يقولون : فلان بس حجي (كلام)، أو يقولون له: لو تشتغل بكد ما تحچي. وفي تراث العرب، يروى عن أحد الولاة أنه لما ولي، ارتقى المنبر فأخذته هيبة الموقف وعجز عن القول، فتصايح عليه القوم مستنكرين، فنزل بعد أن جرد سيفه وقال: فألا أكن فيكم خطيبًا فإنني .. بسيفي إذا جد الوغى لخطيب، ثم قال : أنتم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل.
جدلية الصمت والثرثرة تقوم على هذه المعادلة، ولعلها تتجسد بأقوى أشكالها في جماعة الأدباء والفنانين والكتاب ومنجزي الأعمال الفنية. كلما كان الأديب منجزا ومنتجاً قلّ كلامه، بل ربما قل ظهوره الاجتماعي، في حين يجري العكس مع غير المنتجين، فأغلب هؤلاء يتحدثون عن مشاريع يعدون باِنجازها أو ينتظرون الوقت المناسب لطرحها، ثرثرتهم تصبح بديلاً. أتذكر أن أحدهم قال لي يوماً إن لديه تسعة كتب هو بانتظار تحسن أوضاع العراق لطبعها. كانت ذريعته أن الظرف غير مناسب ولن تقرأ كتبه. وها هو اليوم بعد خمسة عشر عاما من تصريحه "على حطة ايدك".
الطريف أن ذلك الصديق كان لا يتوقف عن بث أفكاره طالما هو مع الآخرين. انجازه هو الكلام، نعم، عند البعض، الكلام يكون هو الانجاز .. فتأمل.