حبيب السامر
في البدء كانت فكرة صغيرة بحجم حلم هارب من وسائد الأيام، ظلَّت عالقة منذ أيام تطلعنا الأول حين كنا نسمع بتونس الخضراء، وأذكر أن صديقاً قد زارها في سبعينيات القرن الماضي، كان في فرقة الفنون الشعبيَّة، تجمهرنا حوله في بيته، ليشرح لنا طبيعة الطقس والمعالم والحياة هناك، تنامت الفكرة، وبدأت تلحُّ عليَّ كلما سنح الوقت كبُّرت الرغبة في زيارة هذه المدينة وتضاريس الجغرافية الآسرة، وهي تطل ببهاء روعتها على امتدادات البحر الأبيض المتوسط، تمتاز بخضرة أشجارها المتنوعة وهي تكسو أرضها الخصبة ويقال: "لقد تعاقبت عليها حضارات عدّة كان منها الرومانية والفينيقية وغيرهما، إلى أن فتحها المسلمون في القرن السابع الميلادي وأسسوا فيها مدينة القيروان التي تُعد ثاني مدينة إسلامية في شمال أفريقيا بعد الفسطاط".
وتعد شاهدة على هذا الإرث الحضاري لما يحتويه من آثار شاخصة، وطبيعة مناخها المتوسطي الجميل.
لم تكن رحلة تقليديَّة، وفي رأسك تعج تفاصيل أماكن كثيرة للوصول إليها، على الرغم من السفر الطويل بدءاً من فجر اليوم والوصول عصراً إلى مطار قرطاج، بعد أن تغادر الصالة، لتلامس فضاء المدينة تلمح غيمات تتباعد في سماء تونس وحركة رياح تلامس وجوه المسافرين، لم يستغرق الوقت طويلاً حتى تصل إلى شارع الحبيب بو رقيبة، تلج شارعاً فرعيّاً بجوار فندق أفريقيا لتجد الحجز في فندق "التاج" بعد أن سبقنا بعض الأصدقاء إلى هناك.
تركنا حقائبنا وتوجهنا بلهفة إلى الشارع الممتد من نافورة الساعة التاريخيّة ونصب "الحبيب بو رقيبة" وصولاً إلى طوق باب البحر الذي سمي لأنّه يفتح في اتجاه البحر، قبالة بحيرة تونس، وعلى جانبيه - الشارع- تزدحم الكافيهات بأشكال مختلفة فوق أرصفته وبتسميات متعددة، وكان مقصدنا مقهى باريس الذي شهد أول استراحة لي، نعم، جلسنا قليلاً وارتشفنا القهوة التونسيَّة وهناك حركة الناس السريعة في الشارع المشجر وبمصاطب متناسقة.
على مقربة منا يمتد شارع "شارل ديغول" وتفرّعات عدة "محطة برشلونة" و"نهج هولندا" وهناك بالقرب من السفارة الفرنسية بواجهات زجاجيّة، لم أتفاجأ حين دخل صديقي صباح اليوم التالي إلى أحد المطاعم وطلب فطوراً وهو يقول: نريد "عظم" ويقصد بها البيض ضحكت في سري وأنا أقول لله في لهجاته شؤون، القهوة برغوة بيضاء تغري الجالس في عراء هذا الشارع الجميل.
عندما تكون لديك التزامات ثقافيَّة ومواعيد أدبيَّة ولقاءات مع أصدقاء العالم الافتراضي بعد أن عرفوا بقدومك، حتماً سيؤثر ذلك على برنامجك السياحي والذي تتشوّق فيه إلى زيارة المتاحف والبيوتات التراثيّة والأماكن الثقافيّة الممتدة في كل بقعة من هذه الأرض الخضراء، ولكي تتحقق بعض أحلام الزيارات إلى مناطق متنوعة توجهنا إلى سوسة الساحليّة ومنها إلى المنستير الهادئة كموسيقى ناعمة، لا شيء يحد حركتنا على الرغم من تراشق المطر وهطوله المستمر في تلك الليلة، المساء في المنستير يشبه إلى حد ما حكاية من بطون كتاب سحري يتحدث عن تناسق الأمكنة والبنايات وحركة الناس، كل هذا لا يسعفنا لزمن إضافي لوجود ارتباط في المنطقة الأكثر جمالاً وهدوءاً "سيدي بو سعيد" المدينة التي تنام على كتف البحر من جهاتها المتناسقة، كأنّها شذرة زرقاء في يد عاشقة، نعم، لطبيعة هذه المنطقة الساحرة وهي تأخذك بين شوارعها، تحتضن بنايات وبيوتات بأسيجة بيضاء وأبواب وشبابيك زرقاء، حتى درابينها الضيقة تحيطك بألفة وحميميَّة لتنوع تراثها وحاجاتها القريبة من النفس.
الرحلة لم تنتهِ بعد، هناك الكثير من الحكايات والقصص والمحطات المضيئة التي صادفتها وتركت في داخلي أغنية تونسيَّة نعزفها وقت التذكّر الجميل.