قصّات الشعر النسائية وتصفيفات السرد

ثقافة 2024/09/11
...


ابتهال بليبل 





دائماً ما كنت أتساءل عن الذي يربط تصفيف الشعر ولونه بالأحداث من حولنا, وهل يعتمد هذا على تيارات الموضة وتقليعاتها بالفعل؟ أم أن هناك أبعاداً مختلفة يمكن الوقوف عندها؟ وما هو الدافع وراء اختيار صورة امرأة بتصفيفة شعر قصير أو طويل على غلاف كتاب أدبي؟ أم أن الاختيار كان بشكل عشوائي وغير مدروس؟

خلقت هذه التساؤلات داخلي إلحاحاً كبيراً في متابعة هذا الأمر, وتحديداً كلما تصفحت أغلفة بعض الروايات بتعمد أو صدفة.  




بداية, علينا أن ندرك أن تصفيف الشعر رغبة فطرية غايتها الإشارة ولو بشكل ضمني إلى الجمال والقدرة الذاتية, على الرغم من أن هذه التسريحات عادة ما تتأثر بالثقافات والسياسات والأديان، كما الحال مع “الآلهة والأساطير والأباطرة” وغيرهم ما يحدد بعض جوانب الحياة وأنماطها كالإغراء والتمرد والوعي الذاتي, إلا أن غايتها الأساس تبقى الرغبة في إظهار المشاعر الداخلية المخفية. 

هناك بعض المشاهير مثل مصمم الشعر البريطاني الشهير “فيدال ساسون” ممن يظهر أنه فهم بشكل أعمق الغاية الأساس من قصّ الشعر وتصفيفه, فابتكر “جمالية بصرية للنساء” عندما غيرت قصات الشعر في ستينيات القرن العشرين المفاهيم التي ساعدتهن على استغلال الوقت وقضاء أقل ما يمكن عند الاهتمام بمظهرهن. 

ظهور النساء على أغلفة الكتب, كان يعود بحسب المصادر إلى اتساع المجتمع الاستهلاكي الذي تحركه الصناعة، حيث أصبح النجوم والمشاهير منتجات قائمة بذاتها لبيع الأحلام, حين قدم التلفاز والسينما عبر ملصقات مرسومة لأبطال من الرجال يتصفون بالوسامة ومن النساء بالإغراء, حتى تطورت أغلفة الكتب تدريجياً بإتباع نفس أسلوب هذه الملصقات، وخاصة في خمسينيات القرن الماضي.

في الملصقات وأغلفة الكتب هذه، لعب أبطالها الدور الأول, حيث سلط الضوء عليهم عبر لقطات مقربة وإظهار ثيابهم وقصات الشعر الخاصة بهم, كهوس مرتبط بالاستهلاك.. لقد كان الناشرون ينظرون إلى أجساد النساء وتفاصيلها المثيرة بما فيها تسريحات الشعر كشيء يمكن بيعه والاستفادة مادياً منه. 

لكن هذا الأمر لم يستمر على حاله, حيث بدأت مرحلة جديدة بدأ فيها الرسامين بخوض مجال التجريد,  وتحديداً بعد عام 1960 وابتعدت تلك الأغلفة عن الواقعية المفرطة وفسحت المجال لخيال المتلقي. فبدت تصفيفات الشعر موحية لمفاهيم وأفكار عميقة مغايرة لما يُعتقد, غاية في ضرب مقولة “أحكم على الكتاب من غلافه”, حتى لا يتمكن المتلقي من تحديد السبب الذي يجعله ينظر إلى أغلفة الكتب بهذه الطريقة. 

وبهذا عكست قصات الشعر وتصفيفاته على أغلفة الكتب مكانة المرأة في مجتمع الأحداث السردية الموجود داخل الروايات, فبدت مرة وهي تمثل المرأة العملية أو تؤمن بعصر الانفتاح والرغبة الجنسية وتتحدى الأنظمة الاجتماعية, أو تعبر عن أفكارها وتجاربها كالشعور بالخوف والوحدة أو الإحباط أو السعادة. 

يبدو ربط “لينا بلانديني - سيماني” في كتابها “معايير الاستهلاك والأخلاقيات اليومية” المعايير التي تحكم الاستهلاك اليومي برؤية العالم والدمج بين الأفكار الأخلاقية المتعلقة بالحياة الفاضلة والعدالة, وكذلك المعتقدات البراغماتية أكثر توضيحاً لفكرتنا, حيث أن فعل تقليعات قصات الشعر أكثر من مجرد الإشارة إلى المكانة الاجتماعية, 

وبدلاً من مجرد اتباع أو تقليد النجوم والمشاهير الفنية والثقافية وغيرهم من الذين في دائرة الضوء. بات يفضل التركيز على تأثيرات المواقف وأساليب الحياة وأنماطها تجاه اتخاذ القرارات تجاه هذه “القصّة أو تلك التسريحة”.

يعتقد الكثير من علماء التحليل النفسي والفلسفي أن “نمط الحياة هو جماعي واستهلاكي يستند إلى أطر ثقافية مشتركة موجودة في النظام الاجتماعي”. 

لهذا فإن النمط الذي يتم به تنسيق الموضة العصرية المتعلقة بتصفيفات الشعر وقصاته تتغير بسرعة, نتيجة الثقافات وأساليب الحياة البديلة وغير ذلك من أحكام جمالية عادة ما تذهب إلى ما وراء التمييز الحسي. 

وفي إغراء التجربة الجمالية, يقول الفيلسوف والمؤرخ “ديفيد هيوم” : إن رفاهية الذوق ليست مجرد “القدرة على كشف المكونات في تركيب ما”, ولكن أيضاً حساسيتنا للألم واللذة. وكما ورد في الأبعاد الثلاثة للتجربة الجمالية, حيث الانبهار بالموضوع الجمالي “الإثارة والانتباه”، وتقييم الواقع الرمزي “المشاركة المعرفية” والشعور القوي بالوحدة مع “الانبهار والتقييم”, يقول الفيلسوف إيمانويل  كانط : إن التمتع هو النتيجة عندما تنشأ المتعة من الإحساس، ولكن الحكم على شيء يكون “جميلاً” له شرط ثالث وهو الإحساس, لابد أن يرتفع إلى المتعة من خلال إشراك قدراتنا للتأملات المتعاكسة.

إن إغراء التجربة الجمالية للمستهلك المعاصر ملهم بشكل كبير, ويستلزم حسابات محددة بشأن دوره في قبول اتجاهات الموضة اليومية. وهنا يتم تحديد سلوك “قصات الشعر وتصفيفاته” من خلال المعايير والمواقف البراغماتية, لأن لدينا قواعد اجتماعية. وعندما يتعلق الأمر هنا قد يكون التفضيل لمزيج من القيم المنسوبة إلى الموضوعات الاجتماعية وأحداثها، أو الخيار لمسألة نفسية كالراحة والشعور بالرضا، أو للجاذبية وقيم الموضة السائدة. وبالتالي، فإن النساء المستهلكات يتأثرن بقوة بسياقهن الاجتماعي. 

المعايير الاجتماعية لاتجاهات قصات الشعر وتصفيفاتها في الواقع، تحمل مجموعة واسعة من المعاني الإيديولوجية. وتصور اتجاهات الشعر ثقافة بصرية بينما أسلوب تصفيفه يشكل هوية المرأة أو الفتاة في بيئة محددة, وهي نفسها التي يفرضها السرد الأدبي, حيث تمثل المعايير الاجتماعية لهذه الاتجاهات التعبير عن هوية الأنثى عبر خيارات السرد ومواقف أبطاله. وهي خيارات تتغير بالعادة من فترة إلى أخرى. بعبارة أخرى، تشير هذه الخيارات إلى نمط وطريقة التسريحة المناسبة التي تحدد معياراً ما.

في الواقع تستمد معايير اختيار تسريحات الشعر الأدبي هذه, من القيم الاجتماعية السائدة في السرد والتوقعات العاطفية لأبطالها من الإناث. يستلزم اتجاه القصات التركيز على التفاصيل التي تتم ملاحظتها في قصّ الشعر أو طوله ولونه وكذلك من وجود خصلات متناثرة ومبعثرة على الوجه, وغير ذلك.

إن معايير كل اتجاه في تصفيف الشعر هي لتعزيز مظهر الأنثى وذاتها. لذا نكتشف أن العديد من هذه الاتجاهات قد هدمت مسألة الجماعة، وركزت بدلاً من ذلك على مسألة “الهوية الشخصية” التي تمليها المعايير النفسية القائمة على العمر والعرق والجنس والتوجه الجنسي وغيرها من أنشطة وولاءات ثقافية مختلفة متوافرة في السرد الأدبي.

وبصورة  أكثر دقة, فإن هذه الاتجاهات يجب طرحها على أغلفة الكتب من قبل المؤلف أو المصمم بعد دراسات إثنوغرافية  شاملة. وفي عصر يكتسب بناء الهوية الشخصية أهمية مطلقة بالنسبة للفرد، فإن مصممي التقليعات يطرحون ما يلبي الاحتياجات العاطفية التي يحركها نمط الحياة والقيم. 

تعطي اتجاهات موضة الشعر اليوم الأولوية للراحة والعملية, وفي بعض الأحيان تنجذب الإناث إلى قصات الشعر غير المرتبة والخصلات العشوائية المتناثرة، من منطلق إنها تعكس تفضيلات الأسلوب التفكيكي السائد في مجتمع استهلاكي لما بعد الحداثة. حيث يمكن استنتاج خصائص بعض مظاهر هذه القصّات في النمط الجنسي أو الذي يتميز بتسريحات الشعر غير المرتبة، لتمثل أنوثة مغناج, أيضا هناك الشعر الفوضوي “الكيلري” للتعبير عن فلسفة عدمية خاصة, أو قصات الشعر المنسدل على طريقة العديد من المغنيات والكاتبات الغربيات كاتجاهات عصرية رائجة. 

وهكذا, تعكس تصفيفات شعر بطلات أغلفة الكتب الأدبية موقف المؤلف من رموز موضة الشعر وفعاليتها في توصيل المغزى بشكل ثقافي.  

فتصفيفات شعر بطلات أغلفة الكتب الأدبية لا تتحدث فقط عن وجودها السردي, بل وأيضاً عن وعيها. إن الوعي في تقدير شكل صورة الغلاف مثل أي تقدير آخر للفن. في تصفيفات الشعر، يجب أن يكون استحضار اتجاه يتعلق بفترة تاريخية مباشرة, ولكن ليس بالضرورة صحيحاً في جوانبه, التأثير البصري والقراءة السهلة للتصميم له الأولوية على الدقة التاريخية في المادة أو الشكل. 

ولكن, هل قصات الشعر القصيرة تمثل حقاً تمرد بطلة الرواية وغنجها, وهل الشعر الطويل المنسدل يتحدث بالفعل عن عاطفة الأنثى البطلة؟ حقيقة لا يمكن تفسير هذا الأمر أو ذاك, إلا من خلال الرموز التي تؤسس للمفاهيم البصرية الأساسية في السرد الأدبي.