مهدي هندو الوزني
يرى العالم اللغوي عبد القاهر الجرجاني أن الايحاء القاء المعنى في النفس بخفاء وسرعة وهما يحققان سرية وسرعة استقبال وتلقي أي أثر ابداعي والتفاعل معه وبه ، ولذلك يشتغل العديد من المبدعين وبكافة مجالات الابداع ومنها الابداع الموسيقي على منطقة الايحاء لاستهداف عقل وذهن ونفس المتلقي للأثر الابداعي والذي هو نتاج ايحاء ذاتي أي أنه من مستخرجات الذات الابداعية ، ولكل عمل ابداعي مفرداته ومادته التي يتشكل منها هذا الابداع وفي الموسيقى تعد النغمات المادة الأساسية فمنها تتكون الجمل والعبارات والمقامات الموسيقية فهي حروف اللغة الموسيقية ، ولو رجعنا الى مقطوعة ( العصفور الطائر ) لمؤلفها الموسيقار ( منير بشير ) نلحظ أنه اشتغل على عنصر الايحاء في تصويره النغمي حيث أوحى الى المستمع بوجود عصفور يحاول الخروج من عشه ليحلق في الفضاء وماينتج عن فعل التحليق من توتر ومخافة أن لاتنجح عملية الطيران وبعد عدة محاولات ينجح العصفور في التحليق ومن ثم الهبوط والاستقرار ، يبدء الموسيقار ( منير بشير ) مقطوعته الموسيقية باختياره لمقام ( الماينر ) أو مايسمى بالموسيقى العربية مقام ( النهاوند ) من النغمة ( دو ) أو مايقابلها في الموسيقى العربية نغمة ( الرست ) واختياره لهذا المقام ربما لأنه مقام يشير الى الرقة والبهجة فهو مقام عاطفي يساعد على الايحاء الى المستمع بشكل العصفور الجميل والمبهج ، لقد ارتكز الموسيقار ( منير بشير ) على عنصرين هامين في تحقيق الايحاء بحركة العصفور هما السرعة والتكنيك فدائما مانلحظ أن العصفور سريع الحركة في التحليق والهبوط والانتقال بين الأماكن ، لقد وظف الموسيقار ( منير بشير ) القفزات النغمية وكذلك ( الكوردات ) والتي هي عبارة عن ترافق نغمتين أو أكثر تعزف في آن واحد وأيضا” ( الأربيجات ) للايحاء بحركة العصفور واختار ( الليكرو ) وهي السرعة التي تعزف بها المقطوعة وتكون بشكل سريع وهي تمثل التكنيك العالي للعزف وهنا فرض الموسيقار ( منير بشير ) على المتلقي السامع مايعرف بالتنويم الايحائي الذي يحتاج من السامع التركيز الذهني لهذه السرعة المختارة وأن يضع كافة المؤثرات المحيطة به خارج نطاق تركيزه ليصل الى متعة مشاهدة الصورة التحليقية لهذا العصفور الطائر .
لقد خلق الموسيقار ( منير بشير ) علاقة ايحائية جمالية بين عنوان المقطوعة وبين التكنيك الذي اعتمده للتصوير الحركي المقابل والمفسر للعنوان وبين اثارة أذن المستمع وحواسه لهذه المساحات النغمية المتشابكة والمتوازنة ساعدت على عملية الفهم التي أدت الى متعة جمالية ، كما اعتمد ( بشير ) في ايحائه على جمالية التكنيك الحركي السريع ليخلق لدى المستمع حيزا” من الانفعالات اللاشعورية في تصور التراتبية النغمية الصاعدة والهابطة والمتموجة على أنها عصفور يحلق هنا وهناك صعودا” الى فضاءات عالية ومن ثم النزول والاستقرار على غصن شجرة ، لقد مثل الايحاء لدى ( بشير ) ألية للتعبير عما أراد أن يطرحه في خطابه الموسيقي عن امكانية هذه التقنية وهي الايحاء الى خلق معادل صوري ذهني لما يسمع من موسيقى مجردة والاحساس بها وبجماليتها