إطلالة على الذاكرة والأدب النسوي وصناعة الاسم
صلاح السيلاوي
هذه إطلالة على مشهدنا الثقافي ومشكلاته عبر نوافذ متعددة من قضاياه وهمومه، إطلالة طرحت عبرها مجموعة من التساؤلات عن حاجة المنجز الإبداعي لإعلان متميز يستقطب الجمهور ويسهم نسبيّاً بعودته إلى مقاعده المهجورة. كما تساءلت عن أسباب تردي اهتمام دور النشر بالمؤلف، واعتياش أغلبها على جهد المبدع من خلال تسلمها كلفة طباعة الكتاب ثم بيعه من دون الترويج له أو توزيعه بشكل لائق.
ومن نوافذ إطلالتنا هنا، الحديث عن أثر الأدب النسوي وأهميته وتأثيره ومضامين خطابه وقدرته على تحقيق إصلاحات في حياة المرأة؟ ومدى حاجته لتشريعات قانونيّة.
وكانت لي نافذة أخرى على الأبوة في المشهد الثقافي تساءلتُ خلالها عن ماضويَّة المفاهيم التي يتصارع كثيرٌ على الثبات أو التحرّر منها، عن الأبويَّة التي أنتجتها سعة وأهمية المنجز الإبداعي لأسماء باتت تشكل علامات مهمّة، فضلاً عن ثقافة التلفزيون ومستويات ما يقدمه من جهل بأهمية الإبداع وقدرته على التغيير فضلاً عن الاستفهام عن مراحل صناعة الاسم الأدبي في البلاد وعلاقة المثقف من جانب والدولة من جانب آخر بالموضوع، ولم يكن موضوع الذاكرة العراقيَّة ببعيدٍ عن أسئلتي فكانت هموم تلك الذاكرة وما قدمه المبدع من منجز مرتبط بها وبثقلها التاريخي والإنساني موضوع جدير بالتساؤل والبحث.
الإعلان الثقافي
لم تعد الأمسيات الشعريّة والسرديّة والنقديّة التي تقام في اتحاد أدباء العراق وفروعه والمؤسسات المعنيّة الأخرى مكتظة بالجمهور، فمن يحضر تلك الفعاليات لا يمثل تنوعاً اجتماعياً، بل انسحب الجمهورُ كثيراً إلى مستوى مقلق حتى أصبحت النخب العراقيّة المبدعة ذاتها جمهوراً لنفسها، فالشعراء والقصاصون يحضرون لأمثالهم والنقاد كذلك، أما الجمهور الذي كان يسعى للاستمتاع أو الاطلاع وهو من خارج النخبة لم يعد موجوداً وهذه خسارة اجتماعية فادحة. إذ يجد المتتبع قصورا في مجال الإعلان الثقافي الذي يمثل مرحلة مهمة من مرتكزات صناعة الثقافة وتأثيرها في المجتمع، فضلاً عن السعي لاستقطاب الجمهور وتربية ذائقته الابداعيّة.
ما الذي جعل المجتمع يتراجع عن حضور هذه الفعاليات؟ وما هو الدور الذي على المؤسسات الثقافية أن تؤديه لتسهم بإعادة الجمهور إلى مقاعده؟، هل تسعى الدولة عبر مؤسساتها كوزارة الثقافة والبيوت الثقافيّة لرصد هذه الظاهرة ووضع بعض من الحلول لها، عن هذه التساؤلات أجابنا الشاعر والمترجم رعد زامل متكلماً عن أهمية الإعلان الثقافي في عملية إعادة الجمهور الى مقاعده، مبيّناً أن جودة وضرورة ذلك الإعلان قادرة على الإسهام بشكل كبير في صناعة وتوجيه ذائقة الجمهور بلا شك. وعلى الرغم من أهمية هذه الصناعة فهي كما يجدها زامل غائبة في كل مفاصل الدولة، مشيراً إلى أنَّ الاعلانات الثقافيّة الموجودة لا تتجاوز حدود دائرة شبكة التواصل الاجتماعي، لذلك استشرت ذائقة الثقافة الشعبيَّة الهشّة على حساب اللغة والذوق العام وما الى ذلك، على حدِّ قوله. لافتاً إلى أنَّ كل الإعلانات الضوئيّة تقف عاجزة عن توجيه الذائقة العامة لنسق ثقافي حضاري واحد في شعريّة أو سرديّات بلاد الحرف.
وأضاف بقوله: إنّها لمفارقة مريرة حقاً أن ترى أغلب مؤسساتنا الثقافيّة تسير بخطى بطيئة جداً على مستوى الإعلام والإعلان الثقافي. من هنا تكون هذه المؤسسات قد أغفلت بقصدٍ أو من دونه تنمية حسّ ثقافي أو إنساني أو وطني. إنَّ الأمور هنا تسير كيفما شاءت الريح فلا بوصلة ولا شراع ولا قبطان.
غياب دور النشر
يشهد العراق اهتماماً واضحاً بإقامة معارض كبيرة للكتاب، وسعي متميز من قبل النخب الثقافيّة لإشاعة القراءة عبر تنظيم فعاليات جماهيريّة تشجّع على شراء الكتاب. الغريب في الأمر أن كل هذا السعي لم يأتِ بمصلحة المؤلف العراقي فما زال البلد على مدى سنوات متوالية لا يملك دور نشر قادرة على دعم الكاتب دعماً كبيراً، أما دور النشر المحليّة الصغيرة فقد سعت بكل ما استطاعت من جهد للربح، بل والاعتياش على جهد المبدع فهي تتسلم كلفة الطباعة والنشر منه ثم تبيع الكتاب من دون تحقيق ربح ولو
صغير له.
توجهت بهذه التساؤلات للشاعر رياض الغريب الذي أبدى شعوره بالأسف الشديد لما يحدث من إهمال لمنتج الكاتب العراقي في بلد يصر فيه المبدع على الاستمرار في رفد النتاج الثقافي بمنجزه الإبداعي على الرغم من خسائره الماديَّة بين هلالين على نفقته الخاصة، وأكد الغريب على أن المبدع العراقي يستقطع من قوت عياله ليكون فاعلاً وحاضراً والسبب في ذلك عدم وجود دور نشر حقيقيّة تسهم بإيصال الكتاب الى
جميع شرائح المجتمع.
وأضاف بقوله: لهذا استغل الكثير الاديب العراقي؛ لذا نحتاج لدور نشر تستطيع أن تسوّق للكتاب والمنتج الإبداعي وبالنتيجة، يمكن أن تحول الخسائر الى ربح إن كان على المستوى المادي أو المعنوي.. كذلك نؤكد ضرورة حضور عقليّة الإعلان والتسويق في هذا المجال.
أثر الأدب النسوي
ما أهمية الأدب النسوي، وما تأثير الواقع السياسي والأمني والاقتصادي عليه سابقاً وحالياً؟، أين تكمن سلبياته وإيجابياته؟، إلى أين يتجه خطابه؟، ما الذي يعيقه؟، هل هو موازٍ لأهمية الخطاب الأدبي لدى الرجل، هل استطاع التأثير في المجتمع؟، أيمكنه أن يكون نافذة لتحقيق إصلاحات في حياة المرأة العراقية؟، ماذا عن السلطة الذكوريَّة على المجتمع؟، ما حقيقة إضرارها بهذا الأدب؟، ما هي الحاجات التي يجب أن توفرها الدولة أو المؤسسات الثقافيّة لتسهم بدعمه؟، أما زال المجتمع عائقا له؟، هل تحتاج الأديبة إلى تشريعات قانونيّة خاصة
بها؟.
الروائيَّة رغد السهيل أجابتني عن هذه التساؤلات بإشارتها إلى وجود خلاف على تعريف الأدب النسوي، لكنّها تؤمن أنّه لا يعود لجنس الكاتب إنما للفكرة التي يحملها إن كانت تهدف لدعم النساء وإخراجهن من حالة الخنوع والضعف ودعوتهن للمشاركة بالبناء بجانب الرجل وهذا يستطيع الكتابة به الرجل، وإن كانت المرأة أقدر على التعبير عن خصوصيتها، وأضافت السهيل بقولها: هذا النوع من الأدب (بالتعريف الذي قدمته) معدوم أو قليل جداً في العراق، لأنَّ الغالبية تظهر ضعف النساء أو جعلهن مادة للمتعة لا مركزاً للقوة والعطاء.
أنا أنظر لسلبيات وايجابيات الأدب النسوي من باب إجادة العمل وتوصيل الرسالة فحسب، وأتعامل معه كأيِّ إبداع وأجد أن تطويره صعب لأنَّ هناك خلافاً بتعريفه.
النساء في هذا المجتمع تحت سلطة ثقافة مجتمع ذكوري تريد منا الكتابة بلغته وأي خروج عن اللغة السائدة المتداولة، إن لم تكن صاحبته جريئة ستصاب بالإحباط. الفكرة، هل لنا حرية كاملة بالتعبير عن أفكارنا ونحن أساساً ثمرة تربية ذكوريّة؟، التحرر من هذه الثقافة ليس بالسهل، كانت فيرجينا وولف تضرب الملاك الذي يراقبها عند الكتابة بالمحبرة إذا ما طلب حذف كلمة لا تعجب الآخر. الأدب النسوي لغة عالميَّة تقول يا نساء العالم اتّحدوا فقضيتنا
واحدة.
صناعة الأسماء العراقيَّة
من يصنع الأسماء المبدعة؟، هل تفكر الدولة بهذه الصناعة وأهميتها، هل تضع وزارة الثقافة ذلك في خطتها مثلاً، وهل هنالك سعي حقيقي ومبرمج لدى المؤسسات الثقافيّة كاتحاد أدباء العراق وفروعه؟، ألا تجد أن هذه الصناعة مهمة للتأثير في ذائقة المجتمع وتطويرها، إلا ترى أنّها تمثل نقاط جذب عن مناطق الظلام وخطابات الخراب التي تتراكم في يومياتنا؟، من يصنع الأسماء الثقافيّة والإبداعيّة بشكل عام؟.
الشاعر عادل الصويري قال: على المستوى الفني؛ تقع مسؤولية صنع الاسم الابداعي على المبدع نفسه، فهو الذي يجتهد ويبدع. لكن الأمر يحتاج إلى ذهنيّة تسويقيّة وهذا ما يجب أن تقوم به المؤسسات المعنية سواء كانت رسميّة أو مدنيّة للتعريف بالمنجز الذي تراه يرتقي بالذائقة العامة، ويقدم خطاباً تنويريّاً يخلو من شوائب الثنائيّة المقيتة ممثلة بالتطرّف والمجاملة.
تسألني هل هناك سعي مبرمج لمثل هذا؟، نعم السعي موجود؛ لكنه سعي يدور في فلك التقليديَّة. في تونس شاهدت مهرجانات الشعر تقام في سفينة، وشاهدت أكاديميين وباحثين يرقصون محتفلين بالحياة، بينما مازلنا نقرأ في القاعات أمام تماثيل جامدة من أساتذة ونقاد؛ لذلك نحتاج لأن نصنع أسماءنا بذهنيّة تبتعد عن التضخم التقليدي لذواتنا مع جهد تسويقي
مؤسسي.
الأبوة في المشهد الثقافي
هل تمثل الأبويَّة في المشهد الثقافي العراقي عائقاً كبيراً أمام حركات التجديد، أو قيداً على فكرة التحرّر من ماضويّة المفاهيم التي يتصارع كثيرٌ على الثبات أو التحرّر منها، ماذا عن الأبويّة التي أنتجتها سعة وأهمية المنجز الإبداعي لأسماء باتت تشكل علامات مهمة في الثقافة العراقيّة، ومنها السيّاب ونازك الملائكة والجواهري الذين يوصفون آباءً شعريين، فيما يعد غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومحمد خضير آباءً سرديين.
هذه الأبويَّة التي قد تنطلق من رمزيَّة وتأثير هؤلاء المبدعين وأمثالهم أيمكن أن تكون مبررة؟، وماذا عن أثرها على الأبناء في المشهد؟ هنالك أيضا ما أسميه (الأبويّة المؤسساتيّة) حيث تصنع إدارات بعض المؤسسات أسماءً معينة ثمَّ تصبح لها سلطة الأب على صناع الإبداع؟، هل هنالك من ينفلت من التأثر بهذه الأبوة ويحافظ بذات الوقت على انتمائه لخصوصيته
الثقافيّة.
الشاعر حمدان المالكي أجابني عن هذه التساؤلات بقوله: لا أرى أن عصر الأبوة الثقافيّة انتهى لكني أراه في مرحلة النزع الأخير، وأسباب ذلك معروفة منها وجود وسائل التواصل الاجتماعي وتغير تفكير الجيل الحالي عن فكرة الأبوة، الجيل الحالي جيل متمرّد ومتعطّش لكسر الأصنام التي يرى أنّها تقف في طريقه ومن جهة أخرى فإنَّ بعض الأسماء الراسخة في المشهد الثقافي تتعامل بفوقيّة ونرجسيّة، وهذا مما يعزز فكرة تجاوز هذه الأبوة، نعم هو يتأثر ويعجب فيها لكن بطريقة من يشرب من النهر من دون الغرق فيه، أما بالنسبة لأبوة المؤسسات الثقافيّة فأرى أنّها أبوة محتكرة للفعل الثقافي، اليوم الذين يديرون دفة بعض هذه المؤسسات الثقافيّة لا يقدمون شيئاً إلى المثقف تحكمهم العلاقات الشخصية والتخادم الثقافي إن جاز التعبير، وهو أدعوك إلى جلسة وتدعوني أنت إلى مهرجان، الكثير من الأدباء وممن يشتغلون في الشأن الثقافي للأسف انخرطوا في هذه اللعبة السخيفة، ووصل الأمر ببعضهم للتملق الفاضح على صفحات التواصل الاجتماعي من أجل مهرجان أو طبع كتاب أو أمسية وهو في النهاية خراب محض لأنّه يقدم الأدنى على الأعلى من الناحية الإبداعيّة، قلة قليلة من الأدباء تخطوا أسوار أبوة المؤسسات الثقافيّة ونجحوا في بناء أسمائهم بعيداً عن ضجيج المؤسسات، صحيح أنّهم قلة لكنهم يصححون مسار الثقافة برفضهم لكل أشكال التبعية والرقص في حفلة خاسرة.
ثقافة التلفزيون
البرامج التلفزيونيّة العراقيّة التي يجب أن يكون دورها واضحا ومؤثرا في التفريق بين ظلمة الواقع ونور المعرفة، أجدها غير قادرة على إيصال ما تريد الى الذات مرة ومرتبكة في طرح ما تريد أحيانا، يتضح ذلك فيما تقدمه التلفزيونات المعنية من فقر في جوانب الثقافة والأدب.
عن هذه البرامج وأهميتها وضرورة اتساع دورها أتساءل، عن أهمية امتلاك كثير منها لمفردات الثقافة والإبداع في ظل تسرّب أفكار مشوّهة ومتطرّفة إلى أنساق الحياة الاجتماعيّة؟، لماذا لا نجد كماً مناسباً لحاجة المجتمع من تلك البرامج؟، ما رأي المختصّين بالشأن الإبداعي بمضامينها؟، وبِمَ يقيمون التوجه الثقافي لإدارات الفضائيات العراقيَّة؟.
الشاعر عادل الفتلاوي تحدث عن كثرةِ الفضائياتِ التي تريد حشوَ وقتها بالبرامج المنوّعة ومنها الثقافيَّة، وبروز كمٍّ من البرامج على حسابِ النوع، مشيراً إلى إسهام الإعلام الثقافي في إطلاق طاقات بهموم ذاتيّة وشخصيّة، مقلّدة، وتضخيمها إلى أن تصل إلى مستوى الظاهرة، ما تلبث أن تتلاشى.
ورأى الفتلاوي أنَّ الكيفية التي يمكن من خلالها التخلص من هذه المشكلة تكمن في التحصين بالانتقاء الذي تشرف عليه النخب الثقافية، إذ إنّ الموجود منها يعدّ على الأصابعِ وغير كافٍ لأن يحدث تلكَ الانعطافة التي من شأنها أن تترك أثراً اجتماعياً وثقافيّاً على الساحة عامة، عدا أن مضامينها تتأثر بالإيديولوجيات التي تسير عليها الأخريات قصداً أو بغير قصدٍ من تبني ما يتسرّب من أفكار وثقافاتٍ مشوّهةِ ونسبها إلى الإبداع، ويشهد التوجه الثقافي في الفضائيات العراقيّة غياباً ملحوظاً وإن وجد فهو غير مهمٍ نتيجة غياب المنهجيّة والتخطيط الذي تفتقر له المؤسسة الإعلاميّة ككل.
هموم الذاكرة العراقية
هل قدم المثقف ما يدل على وفائه لصنّاع أول الحضارات من أسلافه؟ متى وقف الى جانب الأثر الرافديني المهم؟، أيوجد في منتجه ما يدل على استخلاصه لأهمية التاريخ والحضارات التي نشأت على أرضه، أيسعى هذا المثقف بعمق الى جعل هذه الحضارات بعضاً من عناصر الحياة المعاصرة؟، كيف انتفع ايجابياً من هذه الذاكرة من دون الوقوع في فخ العيش في ماضوية التاريخ؟ أين ما يشير لذلك على مستويات عديدة كالسرد والشعر والفن التشكيلي والتمثيل والفنون التلفزيونية والإعلامية.
الشاعر ستار زكم أجابني عن هذه التساؤلات فأشار إلى أن المثقف يجب أن يأخذ ما تقتضيه الضرورة والإيجاب من فعل التاريخ كي يوظفه في منجزه الإبداعي من جهة، وتأصيل التاريخ في ذاكرة الفرد العراقي من جهة أخرى، بعيداً عن المزاجية في فهم وتفسير الوقائع التاريخيَّة. لافتاً الى الأعمال الكبيرة التي أنجزها جيل الروّاد من المثقفين والتي عدها صورة وافية لاستلهام التاريخ في اعمالهم وتوظيفها بشكل متعدد الأوجه بعيداً عن الرأي الجمعي والعامي لفهم التاريخ؛ كون المثقف هنا يقف أمام مسؤوليَّة في ضرورة درايته واستبصاره للتاريخ ونظرته المسؤولة في ترجمة التاريخ ونقله من صيرورة الفعل الماضوي المدوّن الى قراءة جديدة في صور وأشكال شتى تبيّن مكامن وزوايا مختلفة للتاريخ.