جينا سلطان
تعرف الأسطورة بأنها حكاية رمزية محاطة بهالة من القداسة، تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسة، وتؤسس لصلة دائمة بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية. وقد ظهرت في حياة الإنسان كنتيجة لتحويل مخزونه اللغوي إلى أفكار يثبتها في محيطه، من خلال الكلمات والفن البصري، بحيث تعكس تجربته الانفعالية مع نفسه أولا ومع الكون ثانيا. والانسان في ترميزه الأسطوري لهذه التجربة، لا يلجأ إلى التحليل الخطي المنظم، بل يبتكر بنية أدبية فريدة من نوعها.
تسعى من خلال صورها الحركية لإعادة انتاج العالم على مستوى الرمز، ثم اختزاله قبل تقديمه إلى الوعي. لذلك حاول الباحث السوري فراس السواح في كتابه المتكئ على المنهج التجريبي إظهار النظام الداخلي المتماسك لكل أسطورة، والذي ينفتح على مغزى معين، يصب في بناء الإنسان الكامل، الذي يتوازن فيه العقل مع الحدس.
تجسد الأسطورة من حيث شكلها وسيطا رمزيا ينقل الانفعال الداخلي إلى الخارج، من خلال وسيط رمزي آخر يتجسد بالكلمات. لذلك قد يختفي جزء من المعنى أثناء التحويل، ما يستوجب تأمل الأسطورة كتأمل النار الموقدة في ليلة مظلمة وفي الخلاء، حيث تعطينا سرها دون وسيط من الكلمات المتقاربة كالاشتعال والحريق والتوقد، والتي تخلق كل منها إحساسا مباشرا يتصل بها ويحتويها. ورغم صعوبة هذه المهمة التي تنقلنا من "البحث" إلى ما يشبه "التصوف"، إلا أنها تحول دراسة الأسطورة وفهمها إلى دراسة للإنسان، وتجعل من دراسة الماضي فهما للحاضر واستشرافا للمستقبل. فكيف يمكننا النفاذ إلى سر الأسطورة؟
تضع الأسطورة الإنسان وبجميع ملكاته العقلية والحدسية في مواجهة العالم، وتستخدم كل المجازات الممكنة، لتقديم رؤية متكاملة لهذا العالم، ذات طابع شمولي يعادل تجربة الانسان الكلانية وغير المتجزئة معه. أما التمييز الذي يصنعه العقل بين العالم المدرك والانسان، فيذوب من خلال الأسطورة التي تعيد الربط بين طرفي الوجود: الانسان ـ الوعي، والكون ـ المادة، وتكشف تلك الروابط الجامعة لكل ما يتبدى في الوعي. لذلك لا يشعر متلقي الأسطورة، بأنه قد أضاف إلى معارفه شيئا جديدا، وانما غدا أكثر انسجاما وتوافقا مع نفسه ومع العالم، فالأسطورة تُنقل إيحاء لا إملاء، وإشارة وتضمينا لا تعليما وشرحا وتلقينا.
ومع أن الأسطورة تنشأ عن المعتقد الديني وتشكل امتداداً طبيعياً له، لكنها بالمقابل، تزود فكرة الألوهية بألوان نابضة وظلال حية. لأنها ترسم للآلهة صورها التي يتخيلها الناس، وتعطيها أسماءها وصفاتها وألقابها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحدد صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض. وهو ما يقودنا بدوره إلى علاقة الأسطورة بالتاريخ.
إن كلا من الأسطورة والتاريخ يعدان وسيلتين يفهم الإنسان من خلالهما نفسه ويعي شرطه. لكن ما يميز هذان النظامان بشكل أساسي عن بعضهما، هو أن الفكر الحديث قد أحل أفعال الإنسان وقوانين التطور، كمحرك للتاريخ، محل مشيئة وأفعال الآلهة. ويمكننا تمييز ثلاث مراحل في التاريخ الذي تكشف عنه الأسطورة: السرمدية السابقة على فعالية الألوهة. زمن الخلق والتكوين. زمن الأصول والتنظيم.
لا تعلن الألوهة عن نفسها إلا عند دخولها في الزمن وفي تاريخ الكون والإنسان، وذلك مع قيامها بفعل الخلق الأولي، الذي مد المكان وأطلق الزمان، وقاد إلى ظهور الكون من رحم العماء. وفعل التكوين الذي منح العالم وجوده هو الذي يقفز بالألوهة في الوقت نفسه، من حالة الكمون في السرمدية الساكنة إلى حالة الوجود أيضا. لذلك فالأسطورة الحقة، لا تتشكل عندما يكون الإنسان في ذهنه صورا للآلهة، بل عندما يعزو لهذه الآلهة بداية محددة في الزمن. أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الالوهة إلى تاريخها. طبعا باستثناء التاريخ التوراتي الذي يجسد تاريخ الخطيئة بامتياز.
تشير نماذج التاريخ المقدس إلى رغبة الإنسان القديم في الاحتفاظ بنوع من الذاكرة الجمعية التي تعطي وجوده في هذا العالم امتلاء ومعنى. واليوم وعلى أوسع نطاق ممكن تستعلن الذاكرة الإنسانية عن نفسها عبر محاولة جبارة تطمح إلى استعادة الماضي برمته، ماضي الثقافة وماضي الكون، لمعرفة من نحن، ولماذا نحن على ما نحن عليه، والى أين نسير.
وتحت بند الأسطورة والطقس يتوغل السواح عميقا في موضوعة التوحيد، بوصفها فطرة الإنسان التي جبل عليها منذ الأزل. وإذا كانت الأسطورة ترميزاً للخبرة الدينية من خلال الكلمات، والطقس ترميز لها عبر الحركات، فإن التمثال يجسد ترميزاً بالصورة المادية الماثلة أمام البصر، أي وسيطا. وينزه السواح تلك العبادات المشرقية القديمة عن شبهة الوثنية والجاهلية مستشهدا بعبارات للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي كما وردت في الفتوحات المكية: "فلا يعتقُد معتقدٌ إلهاً إلا بما جعل في نفسه.. فليس ثمة إلا عابد وثن". أما التعددية فليست إلا الشكل الظاهري الذي يعبر به معتقد التوحيد عن ذاته. وتبدو فكرة الإله الواحد المثلث لدى المصريين القدماء أوضح مثال على ذلك، "هو الخفي باسمه آمون.. وهو الظاهر باسمه رع.. وهو المتجسد باسمه بتاح". وهذه الفكرة تتجاوز المفهوم التوحيدي التقليدي إلى مفهوم صوفي يذكرنا بالمفاهيم الصوفية المتأخرة حول علاقة الذات الخافية بأسمائها وصفاتها، وعلاقة الكون المخلوق بالذات الخافية من خلال تجلياتها بالأسماء والصفات. ويعتبر السواح هنا أن مصطلح الإله الواحد يدل على قناع، يتخذه المطلق في الزمن وفي التاريخ. مما يعني أن وصول الزمن والتاريخ إلى نهايتهما يقود إلى انتفاء دور القناع ووظيفته، وبالتالي يسقط، فيبدو الإله الواحد نفسه بلا ضرورة أو وظيفة، ووهماً من أوهام الصيرورة، حين تؤول الحيوات والأكوان إلى المطلق العظيم الذي نشأت عنه.
تنفتح الأسطورة ضمن هذا التتابع عن متواليات كونية صدرت عن مصفوفة لغوية محصورة بين الكاف والنون، فآمن من شاء وكفر من شاء، لكن في النهاية "يسجد لله من في السموات والأرض، طوعا أو كرها".