أ.د. باسم الاعسم
لأنَّ المثقف مشدودٌ إلى حبله السري الذي يربطه بعوالم الأدب والجمال، والسمو، والخيال، تجده يكابد باستماتة، لتقديم زادٍ ثقافي ينفعُ الناس، ويدلُّ على ذاته المبدعة، التي تبحث عن حصانة تعودُ عليه بالأمن، والأمان في حياته، فتحصن وجوده المادي والفكري، وعن المجد الأدبي الذي يكتب له الخلود الفني بعد مماته. إنها مطلبٌ مشروعٌ واستحقاقٌ، وليست غاية أو هدفاً، بعد أنْ يكون المثقف قد حصَّنَ نفسه من كل ما يسيء لها، ويخدش حياءها، وليس ما يبرر أخطاءها، بل ما يجعله مثلاً أعلى للإنسان السامي والأمثل، الحامل للشمائل الأجمل على صعيد السلوك الأكمل، والتفكير الأبهى والأشمل، كيما ينال رضا الجميع، بوصفه ممثلاً للجميع في محافل الفكر والأدب والفن والمعرفة والإعلام، وعند ذاك يشار له بالفرادة المائزة التي تضفي على شخصيته سمات الخصوصيَّة في المجالات كافة، وعندئذ يكون أولى من سواه بالرعاية أو الحصانة.
مع يقيننا الأكيد أنَّ المثقف شخصيَّة مسالمة ومتسامحة تؤثر الهدوء والسكينة على الصخب والعنف، والسلام على الحرب، وينأى بنفسه عن مكرهات الحياة، وقباحاتها كالطائفيَّة والعنصريَّة والحقد والكراهية والفساد، في ما يسير باتجاه الوعي والإبداع، والتحضر، فكراً وسلوكاً.
بمعنى أنَّ المثقف الخالص لا يفكر بنحوٍ براغماتي، وإنْ عانى الأمرين، فهو يبتعد بنفسه، ليقترب من الناس والواقع عبر نتاجه الأدبي أو الفني والعلمي، علماً أنَّ مفهوم المثقف يطلقُ على جميع المشتغلين بالأدب، والعلم، والفن، والفلسفة، والفكر، والإعلام.
ولكي ينعم المثقف بحياة آمنة، وعيشٍ كريمٍ، لا مناص من أنْ يحيا وسط ضمانات يكفلها الدستور، وفي مقدمتها: الحصانة المشروطة بالرعاية والخدمات الصحيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، التي توفرها المؤسسات ذات العلاقة بالثقافة، والمثقفين، مثلما هم أولئك المحصنون في مفاصل الدولة، الذين تتيح لهم الحصانة السلطة، والمال، والجاه، والقوة، والقرار، فيشعرون بفرادة موقعهم، وكبر مسؤولياتهم، وأهميَّة دورهم، في حين أنَّ المثقفين لا حصانة لهم، فهم لا يمتلكون سوى أفكارهم، ورؤاهم، ومنجزاتهم، لكنهم لصق وطنهم، وينشدون إنسانيَّة الإنسان في منجزاتهم، ويستقتلون في الدفاع عن أوطانهم، وشعوبهم، وقد يستعيض مفهوم الرعاية عن الحصانة، فلا ضير، إذ ليس للمثقفين غير دولتهم التي ترعاهم، وتحيطهم بالخير والعطاء الجزيل.
ولو كانت للمثقفين حصانة تقرّ على وفق اشتراطات محددة بالعمر، والمنجز الثقافي، تشعرهم بالانتماء والاستقرار، لما هاجر العشرات منهم الى أقاصي الشرق، والغرب، حاملين في ضمائرهم وطنهم الذي عشقوه بعذريَّة، ومن دون مصلحة شخصيَّة، بل انتموا إليه وحبوه بوعي أكبر، وأكثر مما يتصور.
وليس هنالك أعظم من أنْ يتفرد العراق بمؤسساته القانونيَّة والدستوريَّة والسياسيَّة في اجتراح قوانين تحكمها اشتراطات محددة، تكون حصناً حصيناً للمثقفين، ولا أحسب أنَّ هذا الأمر بكثيرٍ على جماجم العراق المبدعة وأساس نهضته الثقافيَّة والعلميَّة والفكريَّة.
كما أنَّ النظام السياسي الذي يصون حريَّة وكرامة رموز الوطن المستنيرة، ويدافع عن حقوقهم المشروعة، ويعضد منجزاتهم، ويوفر فرص العمل لهم، يعدُّ نظاماً سياسياً، وإنسانياً عادلاً ومتحضراً، يعي عن وعي متطلبات الآخر، المثخن بحب الوطن والناس، إذ يعز علينا أنْ يغادر الأدباء أو الفنانون والمفكرون وطنهم الأم الى حيث المنافي والغربة، فتتهدم وسائط الاتصال، بين الوطن الأم، وبين الأبناء البررة، فهل يهون على الثقافة أنْ تفقدَ بعضاً من رموزها الشامخة؟
من أفدح الخسائر أنْ تهاجر الكفاءات المثقفة بحثاً عن هويَّة مفتقدة، وليست عن منصبٍ أو جاهٍ أو ثراءٍ، والأجمل أنْ يعودَ المثقفون المهاجرون الى بلدهم ويعيشون بسلامٍ من دون منغصات تعكر صفو أحلامهم الورديَّة وتطلعاتهم المستقبليَّة، ولا ضير، بل من النافع والمفيد، أنْ تتولى الشخصيات المثقفة إدارة المفاصل الرئيسة في المؤسسات الثقافيَّة والفنيَّة والفكريَّة والعلميَّة، فهم أدرى بشعابها، وهذا هو المنهج الإداري والتنموي السليم في المجتمع المعافى علمياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً، لا سيما أنَّ الثقافة منهجٌ تربويٌّ وإنسانيٌّ قويم، والمثقف رمز إبداعيٌ ووطنيٌ وإنسانيٌ يؤرقه أنْ يتعلم الشعب ويتثقف في ظل دولة ديمقراطيَّة مدنيَّة معاصرة يسودها الحق والعدل والجمال والتسامح، وأنَّ تعميق النهج الثقافي للمؤسسة السياسيَّة يعجل في رسم ملامح الدولة المثقفة العادلة.
المثقفون هم رأسمال الوطن، وذخيرته الحيَّة، في مجابهة الأزمات، فلم ولن نسمع أو نرى أنَّ مثقفاً قد خان شعبه، أو وطنه، بل أنَّ المثقف ينذر قلمه لمصلحة وطنه، وناسه، من دون مُرَاءاةٍ، أو مزايداتٍ، ونعني بذلك المثقف الملتزم.
فضلاً عن ذلك، إنَّ المثقفين هم حملة لواء الحريَّة وقبس الحضارة بفكرهم ونزاهتهم المعهودة وولائهم الأكيد، بما يجعلهم أولى بالرعاية والحماية والحصانة التي هي ليست وظيفة أو مكافأة، بل قرارات أو تشريعات تضمن كل ما من شأنه أنْ يشعرهم بالاكتفاء الذاتي. أفلا يستحقون؟ بوصفهم مواطنين غايتهم إلهام الجماهير بالزاد الثقافي، عبر الحراك الفكري الناشط الذي يسهمُ في صياغة الوعي، وبناء التأريخ الثقافي، وتوجيه الرأي العام الى جانب الدفاع
عن الحقيقة.