التصوّر الذهني: فكّرْ كآينشتاين

ثقافة 2024/09/18
...

شاكر الغزي

نبوغ آينشتاين الفذّ يرجع إلى أنه كان يفكّر بطريقة التصوّر الذهنيّ للأشياء والمفاهيم، لا بتصوّراتها الواقعية، بمعنى أنّه حرّر عقله من التصوّرات المسبقة التي درج الناس على التسليم بها وعدّوها بديهيات.
يرى آينشتاين أن لا علاقة بين صدق (صحّة) مفهومٍ ما (هندسي أو فيزيائي) وبين كونه شيئاً واقعياً له وجود حقيقيّ، رغم أنه يدرك جيداً أن السبب الوحيد وراء نشأة المفاهيم هو كونها تناظر أشياء ذات وجود في الواقع؛ ولذلك فهو يدعو بدايةً إلى إعادة تعريف المفاهيم من خلال البحث في صحّة القضايا الرياضية بين الأشياء.
وفي هندسة إقليدس ــ الصيغ الأولية لقوانين الفيزياء ــ ستواجهك مشكلتان إذا حاولت البحث في صحّة قضية هندسية ما، هما بحسب آينشتاين:
- التشكيك بما ستأتي به من نتائج بسبب الشعور الوطيد بالثقة مع قوانين إقليدس.
- التسلسل المنطقي للقضايا من بديهيات مُسلَّم بصحتها، حدَّ أن يصبح هذا التسلسل برهاناً على صحة القضية.

وعليه فالبحث في صحّة قضية ما سيتحوّل، بطريقة أو بأخرى، إلى بحث في صحة البديهيات.    
يضرب آينشتاين مثالاً لذلك، بما درجنا عليه من اعتبار أنّ ثلاث نقاط على استقامة واحدة إذا كانت تنتمي إلى نفس المستقيم.
مفهوم الاستقامة هنا هو انطباق المواقع الظاهرية للنقاط على مسار الشعاع البصري الواحد في حال اختيار موضع رصد مناسب. ومثلما أنّه مفهوم بديهيّ، فمن البديهيّ كذلك أنّه مفهوم نسبيّ ضيّق يتعلّق بموضع وزاوية الرصد، وبالتالي فلا يمكننا أن نقول إنّ للاستقامة ها هنا مفهوماً مطلقاً، إذ هناك الكثير من مواضع وزوايا الرصد تؤكّد أنّ النقاط الثلاث ليست على استقامة واحدة!.
صدقُ قضيةٍ ما بحسب الهندسة الإقليدية هو إمكانية تنفيذها بوساطة المسطرة والفرجار، غير أنّ آينشتاين يرى أنّ ذلك صدق محدود، لا يمكن التسليم به على وجه الكُلّية.
يقبل آينشتاين من هندسة إقليدس ما يقول إنه يُعتبر فرعاً من الفيزياء ــ مثل أنّ المسافة بين نقطتين على جسم جاسئ (صلب) تبقى ثابتة دائماً مهما تغيّر موقع الجسم ــ وهو ما شكّل مع أفكار أخرى (مثل: هندسة ريمان الإهليليجية ومتصلات غاوس وتجربة ميكلسون ــ مورلي) هيكل نظرية النسبية.
ثبات المسافات، ويُسمّيها آينشتاين بالفترات الخطية، بين النقاط على الأجسام الجاسئة، يُمكّننا من تحديد مواقع هذه النقاط، فيمكنني الوصول بسهولة إلى موقع تمثال الحرية مثلاً، بمعرفة المسافة بيني وبينه في نيويورك، غير أنني لو وصلت إلى التمثال وشاهدتُ سحابة فوقه، وتساءلتُ:
ماذا لو أنّ التمثال هو السحابة، فهل يمكنني تحديد موقعه والوصول إليه؟ وجواب ذلك، أنّ تعيين موقع جسمٍ ما في الفضاء (الفراغ) يتمّ نسبةً إلى مجموعة إسناد جاسئة، ثمّ تحديد نقطة ثابتة في مجموعة الإسناد هذه، فلتحديد موقع السحابة في الفضاء، نحتاج إلى مجموعة إسناد هي الأرض، وإلى نقطة ثابتة على الأرض هي تمثال الحرية، عندها سنقول إنّ السحابة فوق تمثال الحرية.
ولتعميم فكرة تحديد المواقع هذه، اقترح الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت ثلاثة سطوح مستوية متعامدة ومرتبطة ارتباطاً جاسئاً مع بعضها ومع جسم جاسئ، ويتمّ تحديد موقع أيّة حادثة بقياس المسافات بين الحادثة ونقطة ثابتة على السطوح الثلاثة، وهذا ما نُسمّيه بنظام إحداثيات ديكارت.
أدرك آينشتاين أنه ليس من المتيسّر دائماً إيجاد هذه المستويات الثلاثة الجاسئة، وهذا أفضى به إلى القول بنسبية المكان، كما تنبّه إلى أنه في حال إيجادها فهناك مشكلتان تتعلّقان بتحديد الإحداثيات بدقّة، هما وحدة وطريقة احتساب المسافة.
في البداية، قاس الإنسان أطوال المسافات بيده وقدمه، فظهرت وحدات الشبر والذراع والباع والقدم والخطوة... إلخ. ولعلّ من الطريف أن نذكر هنا ما روته كتب الطرائف عن ولَدٍ مغفّل للأعمش أرسله ليشتري حبلاً للغسيل، فقال الولد: يا أبه طولُ كم؟ فقال: عشرة أذرع، قال: في عرضِ كم؟ فقال له: في عرض مصيبتي فيك!. وحين احتاج الإنسان لأجزاء من هذه الوحدات الكبيرة، قسّم الذراع إلى سبع راحات يد، ثمّ قسمّ راحة اليد الواحدة إلى أربعة أصابع، والإصبع إلى 36 شعرة ذنب بغل. ونظراً لاختلاف وحدات القياس هذه من شخص إلى آخر، تمّ الاتفاق على ذراع محدّد ليكون هو وحدة القياس، فظهر الذراع الملكيّ في مصر القديمة، والذراع المقدس في أسفار العهد القديم، ثمّ صُنعت وحدات معيارية لهذه الأذرع لتكون وحدات قياس متداولة بين الناس.
وفي نهاية القرن الثامن عشر اقترحت أكاديمية العلوم الفرنسية وحدة المتر، واحتفظت بنموذج معياريّ للمتر مصنوع من البلاتين في خزانة الأرشيف الوطنيّ، ثمّ لاحقاً في خزانة المكتب العالمي للأوزان والمقاييس.
وعلى هذا فالمسافة تقاس ــ في الحقيقة ــ بوساطة مسافة أيضاً!.
لكنّ ما يجعل هذا القياس مقبولاً منطقياً هو الاتفاق المسبق على مسافةٍ ما واعتبارها وحدةً معيارية. إذن يمكن تعريف المسافة فيزيائياً على أنها (اتفاق مسبق على علامتين على جسم جاسئ)، لذا تصنع مساطر القياس من المعدن والخشب والبلاستيك، وتثبّت عليها خطوط عرضية مُتّفق مسبقاً على مقدار المسافة بين خطّ وآخر.
الآن، لو اخترنا أربعة نماذج للمتر، هي: قضيب بلاتيني، حبل، شريط مطاطي، أفعى حيّة! وسألتك: أيّها تفضّل كأداة للقياس الدقيق؟ فلا شكّ أنك ستقول: القضيب البلاتيني طبعاً، غير أنّ آينشتاين يعترض على هذا التفضيل ويعدّه انحيازاً مسبقاً؛ فالمسافة بين طرفي قضيب البلاتين (نقطتي المتر) هي ذاتها بين طرفي كلٍّ من الحبل وشريط المطاط والأفعى (رأسها وذنبها)، وبالتالي فكلّها وحدات قياس تعطي نفس النتيجة، وتفضيل قضيب البلاتين انحياز للاستقامة سبق أن رسّخته في أذهاننا هندسة إقليدس، حين افترضت وجود خط مستقيم واحد يصل بين نقطتين. ربّما يفضّل آينشتاين الحبل على قضيب البلاتين كأداة لقياس المسافة بين نقطتين على سطح كرويّ، لأنه يعتقد بأنّ الخطّ المستقيم لن يكون هو المسافة الحقيقية بين نقطتين دائماً.
قد تقول سأقبل بالحبل أيضاً، ولكني لن أقبل بشريط المطاط والأفعى؛ فالشريط قد ينمطّ (يتمدد) عند سحبه، والأفعى قد تتلوّى. ولكنّ آينشتاين سيعترض أيضاً، ويقول: ومن قال لك إنّ القضيب لا يتمدّد كشريط المطاط، أو لا يتلوى كالأفعى؟! فلو قدّر لمشاهدٍ ما أن يتحرّك في مسار ملتوٍ يطابق مسار التواء الأفعى، فإنه سيراها مستقيمة، وسيرى قضيب البلاتين يتلوّى!.
وفي الفيزياء، يُفترض أن لا يُفضَّل مشاهدٌ على آخر، وبالتالي لا يمكن أخذ ما يراه مشاهدٌ ما على أنه دليل على صحّة القياس (أو صدق قضيّةٍ ما على وجه العموم)، فهو لا يعدو كونه وجهة نظر نسبيةٍ، وعلى قوانين الفيزياء أن تكون واحدة بالنسبة لجميع المشاهدين على حدّ سواء. ونسبية القياسات هذه (نسبية قوانين الفيزياء) هي ما دفعت آينشتاين لوضع نظرية النسبية من أجل الوصول إلى صيغ قوانين موحّدة تصلح للقياس مهما تغيّر مكان الشخص الذي يقيس.
سنفترض أنّ آينشتاين فكّر هكذا:
لو تجادلت خمسة من حيوانات الغابة على حجم تفاحة سقطت من الشجرة، ستقول النملة: إنّها كبيرة جداً، بل إنّ حجمها هائل، فتردّ عليها الجرادة: لا تبالغي! صحيح أنها كبيرة ولكن ليست هائلة الحجم، عندها سيضحك الثعلب قائلاً: ما بالكما؟ هل خرّفتما؟ إنها ليست كبيرة إطلاقاً، بل على العكس تماماً ممّا تقولان، هي صغيرة الحجم، فتعترض فأرة الحقل بهدوء: ثلاثتكم مخطئون؛ فالإنصاف يقتضي أن أقول إنها لا صغيرة ولا كبيرة. يسمع الكركدن ضجّة الجدال، فيأتي نحوهم، ويقول بغضب: بل إنها صغيرة جداً جداً جداً (حجم الكركدن أكبر من حجم التفاحة بحوالي ثلاثة آلاف مرة).
وإذا تحاكمت الحيوانات المتجادلة إلى الأسد ليفصل بينها، فسيفضّل وجهة نظر الثعلب ويعتبرها الأقرب إلى حجم التفاحة الحقيقيّ، ولكنه لو كان عالم فيزياء كلاسيكيا فسيقول إنّ حجم التفاحة نسبيّ، وكلّ واحد منكم يقيسه نسبةً إلى حجمه. أما لو كان الأسد آينشتاين فلن يفاضل بين وجهات النظر الخمس، وسيعدّها جميعاً صحيحة، وسيبحث عن صيغة قانون موحّد يمكن لجميع حيوانات الغابة ــ وليس الخمسة المتجادلة فقط ــ أن تحدد حجم التفاحة من خلاله.
وهكذا يخطو آينشتاين خطوة فخطوة، لا ليثبت أنّ وحدات القياس وطرائقه نسبية تتغيّر نسبةً إلى موقع المشاهد الذي يقوم بالقياس، بل بحثاً عن ثابت كوني من أجل التغلب على مشكلة النسبية هذه، حتى انتهى إلى سرعة الضوء بوصفها ثابتاً مطلقاً (c).
ومن ثَمَّ أُعيد تعريف المتر (وحدة قياس الطول أو المسافة) تبعاً لهذا الثابت، فلم يعد هو نموذج البلاتين المعياري الفرنسي، بل المسافة التي يقطعها الضوء في الفراغ التام في جزء واحد من 299792458 جزءا من الثانية. وأُعيد تعريف الثانية (وحدة الزمن) على أنها 9.192.631.770 قدراً من زمن الدورة المنتظمة لتردد الشعاع الصادر عند انتقال الإلكترون بين مستويين في ذرة السيزيوم. كما أعيد احتساب الأطوال (المسافات) والزمن وفقاً لقوانين تأخذ سرعة الضوء في نظر الاعتبار.  
وهكذا، فإنّ نظرية آينشتاين النسبية لم تقوّض قوانين الفيزياء الكلاسيكية فحسب، بل إنها قوّضت أساسيات الاستنتاج المعرفي التقليدية من خلال التشكيك وعدم التسليم الأعمى بالبديهيات التي هي نقطة الانطلاق الأولى في عملية التفكير العقليّ.