د. نادية هناوي
أفاد خورخي بورخس من عوالم سردنا القديم غير الواقعية، واستلهم منها مختلف أعماله. منها روايته( الخرائب الدائرية) وفيها تتعدد الأكوان ويتداخل الواحد منها في الآخر حيث لا توجد حقيقة، بل هي مدخل لحقائق أخرى ممكنة. مما يسميه البيريس( نظرية العوالم المتداخلة) و(كل كوننا قد يكون قطرة دم في جسم برغوث جبار يعيش في كون ليس إلا قطرة دم في جسم برغوث آخر) وفسّر رولان بارت التوظيف الواقعي للأمكنة بالمركزية العقلية التي جعلت الواقعية جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الغربية.
ووجد فيليب هامون أن أساس المحاكاة في الأدب الواقعي غير محدد بعد نقديا، فـ( نحن نعرف النصوص الأصلية الأساسية: كتاب الشعريات لأرسطو وكتاب فيدروس لأفلاطون ونهاية كتابه الجمهورية التي تحدد فكرة ثقافية ثابتة في البحث عن وضع شعري هو المحاكاة ومع ذلك لم تبلور البلاغات الكلاسيكية والكلاسيكية المحدثة نظرية دقيقة ومتماسكة عن هذا المفهوم) وطالب هامون بضرورة إنعاش مسألة النص الواقعي على أسس جديدة تنطلق من مرجعيات جديدة تطرح عدداً معيناً من المقاصد المنهجية.
وكان لهامون أن يقترب في تصوراته للواقعية من التنظير ما بعد الكلاسيكي للسرد، لاسيما انه أشار إشارة مهمة إلى سعي السرديات ما بعد الحداثية إلى الاهتمام بما هو غير واقعي، بيد أنه اكتفى بهذه الإشارة، مركزا على البعد العجائبي في الخطاب الواقعي ، يقول هامون:( ما بدأ تودوروف في انجازه بخصوص الخطاب الخارق، فتودوروف يميز الخارق بحصر المعنى الذي يحدده تردد مستمر بين الواقعي وفوق الطبيعي ـ ويحتفظ بالتالي بعنصر واقعي كقطب تعارض داخلي - عن العجيب - الذي يحتكره فوق الطبيعي دوما - وعن الغريب - حيث يفسر الخارق عقلانيا ولو اتبعنا تودوروف لكانت في هذا النسق خانة فارغة يجب وصفها تعارض الخطاب الواقعي بصفته خطابا يحتكره نزوع واحد أكثر منه مع الغريب أو الخارق وهما معا خطابان مختلطان). وبهذا يكون هامون قد وقف عند حدود العجيب والغريب بوصفهما الذهني الوهمي الذي هو من صنع البشر عامة، ولم يتعد في تنظيراته للأسف إلى ما كان منظرو علم السرد غير الطبيعي قد وقفوا عليه من ناحية توظيف العوالم المستحيلة التي فيها يكون كل شيء غير واقعي، يتوغل في المجهول واللامتناهي.
ومن يتوغل في السبل التي سلكها السرد العربي القديم، فسيجد أن للعقل قدرة غير محددة على التخييل كآثار قولية وصفية تحيل على مرجع غير مادي ولا مرئي ولكنها لا تلغي دور العقل الوصفي ولا تكون بلا خلفية أو فضلة واقعية وإنما الخيالية مندمجة بالواقع.
وبحسب تبئيرية المنظور، يحرك الحكّاء سارده، لأن يكون ذاتيا أو يكون كلي العلم، محققا وجهة نظره الإيديولوجية أو التعبيرية أو النفسية أو الزمكانية إزاء العالم، وفيها للاواقعية حيز وتأثير من ناحية ما يحمله أبطال القصص والحكايات من وجهات نظر تجاه الذات والمجتمع. وهو ما دفع بالسرد غير الواقعي نحو مسالك اجتماعية في تصوير الوجود وسايكولوجية البشر.
ولا يقتصر الأمر في هذا الصدد على الحكايات المتخيلة، بل يشمل أيضا الأخبار والمرويات التاريخية التي تحفل بعناصر غير واقعية وتحمل وجهة نظر محددة، كما في هذا النص الذي نقله ابن قتيية وفيه نجد الذهب والفضة فاعلين سرديين( لما أتى عليّ عليه السلام بالمال، اقعد بين يديه الوزان والنقاد، فكوم كومة من ذهب وكومة من فضة وقال: يا حمراء ويا بيضاء احمري وابيضي وغري غيري) ونقل ابن قتيبة ايضًا خبرا عن اردشير فيه أوصاف غير معقولة وبوجهة نظر زمكانية، ذلك أنه( لما استوسق له أمره جمع الناس وخطبهم خطبة بليغة حضهم فيها على الألفة والطاعة وحذرهم المعصية وصنف الناس أربعة أصناف، فخرَّ القوم سجداً وتكلم متكلمهم مجيباً، فقال: لا زلت أيها الملك.. ولا زال ملكك وسلطانك باقين بقاء الشمس والقمر زائدين زيادة البحور والأنهار حتى تستوي أقطار الأرض كلها في علوك عليها ونفاذ أمرك فيها فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الشمس ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم فجمعت الأيدي بعد افتراقها ..وأصبح فضلك لا يدرك بوصف ولا يحد بتعداد)
وقد تكون وجهة النظر تعبيرية كما في هذا الخبر التاريخي وفيه تهيمن شخصية الفرس على القصة، وبمنطقية التحصيل الفكري المستخلص في نهاية القصة( ما رأيت للفرس الذي كان تحته نظيرا في الدواب فانه لم يزل قوائمه ولم يرفع حوافره عن مواضعها ولا صهل ولا احدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا) وإذا كان في الحكاية فواعل غير آدمية كالشجرة والمقبرة اللتين صارتا تتكلمان، فان مستخلص وجهة النظر يتمثل في أخذ العبرة من كلامهما( خرج النعمان بن المنذر إلى الصيد ومعه عدي بن زيد فمروا بشجرة فقال له عدي بن عدي: أيها الملك أ تدري ما تقول الشجرة..( فقال شعرا ...) ثم جاوزا الشجرة فمر بمقبرة فقال له عدي: أيها الملك أ تدري ما تقول هذه المقبرة؟ قال لا : قال تقول: ( وقال شعرا ) فقال له النعمان: إن الشجرة والمقبرة لا تتكلمان وقد علمت أنك إنما أردت عظتي.
ومن القصص التي فيها يكون الحيوان صاحب وجهة نظر نفسية قصة( الأسد والغواص) وهي رمزية وطويلة، ولا يعرف مؤلفها المتأثر بحكايات كليلة ودمنة، ومنها هذا المقطع( ذكروا أن أسدا كان ملكا للوحوش في بعض المواضع وكان حسن الطريقة في مملكته محمودا في رعيته قد ساسهم بأمرين جمع الحزم بهما: شدة في غير عنف ولين من غير ضعف) أو حكاية الذئب مع الأسد( قال الذئب: أيها الملك مرضت فعادك السباع إلا الثعلب قال فإذا حضر فأعلمني. فبلغ ذلك الثعلب فجاء فقال له الأسد يا أبا الحصين مرضت فعادني السباع كلهم ولم تعدني أنت. قال: قالوا لي خرزة في ساق الذئب ينبغي ان تخرج فضرب الأسد بمخالبه ساق الذئب فانسل الثعلب وخرج فقعد على الطريق فمر به الذئب والدم يسيل عليه فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت بعد هذا عند سلطان، فانظر ما يخرج من رأسك).