د. سافره ناجيِ
ينفرد السرد المسرحي بخصيصة هي أنه لا يخضع في التشخيص الدرامي إلى قوانين الوصف، بل لشروط الفعل المسرحي، فالسرد فيه نص غائب تشكله الفرضية الجمالية للخطاب المسرحي الذي تعيد ترسيماته السردية في ضوء شرطية الفعل الدرامي. وهذا التفرّد ذو التكرار الغيابي يمنحه فاعلية التحول الدلالي وفاعلية إعادة تركيبه، ويفرز نوعه التعبيري.
وبما أنَّ السرد المسرحي ابتداءً هو الفعل الذي يقدمه أشخاص بعلاقات منسوجة درامياً على وفق علة ما، لذلك يمثل السرد في الخطاب المسرحي بفعل القراءة التخيلية التي تجسدها فكرة اللعب الجمالية.
وهذا الضبط الجمالي تكون مخرجاته تبعاً لقراءة المتلقي التأويلية، لأنَّ القراءة غير معنية بالكشف أو البرهنة عن فرضيتها الجمالية. لهذا يفترق السرد المسرحي عن غيره من السرديات المجاورة له، لأنه مرتبط بقص حدث في الماضي لذلك يتم إدراكه على وفق معطيات الماضي، وينفرد السرد الدرامي بأنه بالضد من الماضي لأنه يسرد على وفق الآن والهنا، فهو يضمر هذه القصدية ذات التشفير الجمالي المتعالي الذي ينفتح فيه السرد الدرامي على التأويل، وسرية السرد في الخطاب المسرحي أنها تغاير قانون السرد القار بالسارد الموجه للفعل، ويتقاسم فيه فعل السرد كل من (الفعل والمتلقي) بوصفه حاملاً لقصدية التشفير، فيكون مشاركاً وناسجاً عبر تفكيك قصدية السرد ليؤسس سرديته التأويلية، وهذا التفكيك يمنح السرد المسرحي فضاءً من التحولات ذات الأسئلة المنفتحة على التأويل، والحفر في مستويات السرد المسرحي في حديه الظاهر الباطن.
وعلى الرغم من محاولات ضبط أنواع السرد المسرحي، غير أنَّ الخطاب المسرحي يشترط تكثيف السرد درامياً وهذا التكثيف يُدخل الملتقي مباشرة إلى بنية الخطاب المسرحي فتتمظهر تحولات بنية السرد من خلال بنية الفعل الدرامي المقترن بشخصية مسرحية، أي يشترط أن تكون تعبيراته ضمن سياق مجريات الحدث المسرحي.
فالسرد الدرامي هنا يتشكل جمالياً من كيفية خلق حافز التوقع لدى المتلقي، وهذا يحدث عندما يتم قص الحدث درامياً في زمن ومكان بشكل مغاير لمرجعيات الحدث مما يحقق الإقناع والتأثير في المتلقي بحدّي تأثيره (قارئ - متفرج).
لذلك يؤكد (بول ريكور) أنَّ درامية السرد هي التي تستفز مخيلة المتلقي وتفاعله الذاتي معها. ففي النص الكلاسيكي على سبيل المثال يكون السرد الدرامي (حدث يقدمه فعل درامي + وصف لمكملات الحدث الدرامي تشخصه الجوقة) التي تتمثل فعلاً لفظياً في المقدمة الأساسية للنص (مرحلة تقديم المعلومات) التي تخلق حافز التوقع لما يمكن أن يحدث، وكما في المثال نص (أوديب ملكاً) مرض الطاعون، وفي نص (انتيجون) رفض دفن جثة أخيها ايتوكلسس ، فهذا الحافز السردي يدفع بالمتلقي لأن يمارس حدس توقعاته لما يمكن أن تؤول إليه الأحداث، بحيث يشكل سرديته وفقاً لقراءته للفعل الدرامي المقدم أمامه.
لهذا نجد أنَّ السرد الدرامي في الخطاب المسرحي يتمظهر بأشكال متنوعة منها:
1 - سرديون داخليون: يقصون للمتلقي ما حدث قبل أن يبدأ العرض المرئي للحدث المسرحي، وكذلك ما يحدث خارج فضاء العرض المسرحي. كما في مسرح برشت الملحمي الذي يجسده الراوي مسرحياً كما في مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية)، ومشهد الشبح في نص (هاملت)، ومشهد إن أطفأتك يا وزير النور في نص (عطيل)، ومشهد رفس الحذاء في نص (مس جوليا).
2 - سرد موندرامي يعرض ذات الشخصية بشكل منفرد وكما يتمظهر في نص (مسرحية الصوت الشرير) لجان كوكتو، ونص مسرحية (أغنية التم) لتشيخوف، أو ما تعرضه الشخصية من انفعال حي تقدم به ذاتها كما في مسرحية فيدرا لجان راسين، وغير ذلك.
فالسرد المسرحي كما يقول ( جيرار جنيت): له تأثير فعال في بناء الحدث الدرامي وتناميه، لهذا فهو يرى السرد المسرحي فناً نثرياً يشترط فيه إقامة الصلة ما بين محمولاته الفكرية والطبيعية والمجازية الشاملة لبناء النص، لأنه جزء من نظام إشاري ومجازي في النص المسرحي إذ يعمل بمنطق يتصف بالدقة التكثيفية الدرامية.
واتفاقاً مع رأي (جميس) فإنَّ الخطاب المسرحي تتهيكل كل مروياته عبر التضمين والتمثيل الدلالي للسرد القار في أدوات الخطاب المسرحي. ولذا السرد يمثل البعد الشعري لبنائية الفعل الدرامي وتصاعده بما يتمظهر من تفاعل الشخصيات الحي (الحسي والعقلي) (اللساني والمرئي)، في قص حدث الحكي والمحكي، وإذا ما فككنا الخطاب المسرحي واشتغالاته الدلالية من خلال لسانياته الكتابية (الحوار الدرامي) الذي يتشكل قولاً لفظياً من خلال الجملة، فالخطاب المسرحي وبحسب رأي (لوبوك) جملة كبرى يعيد الخطاب المسرحي سردها بحسب تقنية السياق الدرامي لتركيب الفعل المسرحي وبنائية تجسيد نظم القص فيه التي تضمر تحولاتها من المبني الكتابي إلى مشهدية العرض.