الحرف العربي بين اللوحة التشكيليَّة والخطّيَّة

ثقافة 2024/09/22
...

 مرتضى الجصاني

يمكننا أن نميز بين مجموعة الأعمال التي تناولت الحرف العربي في تكويناتها، وبنائها الفني وهي اللوحات التشكيليَّة التي استلهمت الخط العربي كعنصرٍ جمالي، وهي على الأغلب لا تميز بين الشكل الفني للخط العربي، والشكل الكتابي للحرف، أو غير معنية بذلك، وأن اهتمام الفنان ينصب على الغرض الشكلاني التوضيحي أو الترميزي أو التأويلي. وهو ما يعتمد عليه أغلب الفنانين التشكيليين كقيمة توضيحيّة أو رمزيّة، تكون أحد عناصر اللوحة في التعبير. وهنا لا يهتم الفنان بالقيم الجماليّة والأصوليّة للخط العربي ولا بأدواته، فقد يرسمه رسماً أو يضعه "كولاجاً" أو طباعة وإلى غير ذلك، وهذه الأعمال تدخل من ضمن التشكيل الذي يستلهم الحرف، وهو أيضاً لا يقع من ضمن منطقة الحروفيَّة، ولكن الغريب أن جل الأعمال التي يطلق عليها "حروفيَّة" هي وفقاً لهذا المنطلق. أما اللوحة الخطية التشكيلية، فهي عمل خطي يرتكز في موضوعه على ثيمة الخط العربي وقواعده، وأشكاله، لكنه يستلهم الفن التشكيلي من حيث تأثيث اللوحة، وبذلك يكون ضمن هذه
التصنيفات:
1. استلهام المنطق الجمالي للخط العربي
وهو الجانب الذي ارتبط به الخط العربي في أدائه الوظيفي للتعبير عن الأفكار والمواضيع كوسيلة لغويَّة، وضمن منطق جمالي توارثه الخطّاطون في قواعده وأصوله، إذ يحاول الفنان استخدامه كوسيلة إيضاحيَّة تربط بطريقة دلاليَّة بين النص اللغوي الذي يحمله الحرف العربي من ناحية، ويشكل علاقة وثيقة بمفردات وعناصر اللوحة الأخرى من ناحية ثانية. حيث يشترك الرسم والخط العربي في معنى مفاهيمي واحد، وهو مادامت عليه العديد من الأعمال الفنية العربية، سعياً إلى طرح مفهوم التراث الشعبي في إطار جمالي، يمتلك مقدرة تعبيريَّة، وبتأكيد كخطاب جمالي موجه مرتين بالحرف
والصورة.
2. الحرف العربي كنسقٍ تأويليّ
لا شكَّ أنَّ الحرف العربي مصدر ثراء فكري وفني وجمالي، كما يوضح أ. د. إياد الحسيني في مقالة "الحروفيَّة قراءة جديدة في الخط العربي"، وأولى صوره البسيطة كانت تحمل تلك الملامح الأساسية فيه، وأول مظاهرها الوظيفيّة والجماليّة هي صفحات تلك المخطوطات التي كان ينسخها الورّاقون والخطّاطون في المصاحف والدواوين والمعارف والعلوم، فكانت أبسط المفاهيم الجماليَّة فيها تلك العلاقة الناشئة بين الحبر الأسود أو البني والورق، وما تتركه هذه العلاقة من إيقاع بين المساحات التي تشغلها الحروف والأرضية كفضاء يحتوي تلك النصوص المزدحمة والمتجهة أفقيّاً تارة، أو عموديّة أو مائلة تارة
أخرى.
وهي بهذه الصورة كما يؤكد الحسيني، إنما تشكل نسيجاً إيقاعياً ذا تأثير بصري مباشر، يجعل من الرؤية موسيقى بصرية تدركها العين، كما هو الأمر بتلك الموسيقى التي تدركها الأذن.
وفي حالات الوجد والعشق الروحي كان الخطاط يعيد كتابة الحروف مرات ومرات، لغرض الكشف عن ذلك الصوت الخفي الذي ينظم ارتفاعاته وانخفاضاته، ثم يكرر ذلك بما يجعل صفحة الورق تتكمل بالسواد "التسويد" في الحروف وتشكيلاتها حتى لا تكاد ترى مساحة بيضاء.
وعندما يتكرر الحرف بصورة طبيعية كناتج لـ "مشق" الخطاط، إنما هو ينقل كل خصائصه الجمالية والتكوينية إلى مساحة أخرى ترتبط بإيقاع وتناسب وتكوين يؤكد صلاتهما الوثيقة، أو إن كانت هذه الوسيلة التكراريّة تنحو منحىً زخرفيَّاً في إيقاعات قد تكون متناقصة أو متزايدة أو رئيسة أو عكس ذلك، إلا أنها في النهاية تتبلور كرؤية جمالية تستمد قيمتها من الخطوط بجهد إنساني خلاق ذي تقنية خاصة، طالما توجت أعمال الورّاقين والنسّاخين والخطّاطين. واستلهام هذه الرؤية إنما يجسد ذلك العمق الحضاري للخطوط، ودوره قبل ظهور الطباعة كمحور للفكر والفن والجمال وكوسيلة لتنفيذهم. إذ تتجه أعمال العديد من الفنانين المعاصرين هذا الاتجاه كرؤية جمالية، بحسب الحسيني.
ومن المؤكد أنّ المعالجات الذاتية لكل فنان تضفي عليها طابعاً خاصاً يمنحها قيمة أسلوبيَّة، كانت في الأصل بعيدة عنها ليس لضعفها، وإنّما لانتمائها الجمعي كقيمة جماليّة لا تشكل ناتجاً فرديّاً، وإنما رؤية جماعيّة لقيمة الفن، ومعنى الجمال، والفرق بين اللوحة الخطية التشكيلية واللوحة التشكيلية الخطية، هو خيط رفيع يتمثل بالمعنى والمبنى والتقنية يكاد يكون الأمر مختلطاً على المتلقي والناقد، فمن الممكن استخدام القيم الجمالية أعلاه في صناعة لوحة خطية تشكيلية وكذلك العكس، بيد أن المعيار الحقيقي هو كيف سيكون الحرف في اللوحة؟، إذا كان الحرف يتمسّك بالقواعد الخطيَّة في إنشاء لوحة يتسيّدها الخط ويكون منطقها الذي تستند إليه تفاصيل العمل، عندها يمكن اعتبارها لوحة خطية تشكيلية، بينما إذا كان الحرف أو حتى الخط العربي بقواعده شكلانيّاً كما أوردنا أعلاه، ستفقد اللوحة معناها الخطي وتكون عملاً تشكيلياً يستلهم
الحرف.