ريسان الخزعلي
(1)
كزار حنتوش، شاعر أخذته صيحة الشعر مُبكّراً، ومنذ نهاية الستينيات وهو في دورة هذه الصيحة، ثابت في محيطها لا يكل من الدوران، وكأنّه واقع تحت قوة الجذب المركزي لهذه الدورة.
إن بداية دورتهِ كانت مدفوعة بالشعر الشعبي الحديث أساساً، ففي مدينته "الديوانية" كان هذا الشعر يتقدّم ويتوازى مع جديد الشعر العراقي والعربي عامة وحتى العالمي، وكان يُغري بالتّماس مع نماذجه العالية، فكريّاً وفنيّاً. وهكذا انخطف كزار إلى حلقة شعر شعبي تجديديّة في المدينة، أقطابها: شاكر السماوي، علي الشباني، عزيز السماوي، كامل العامري.
وكتب قصائده الأولى شعراً شعبيّاً ونشرها في الصحف، ولم يكتف عند هذا الحد، بل كتب فيه بعض الدراسات ونشرها أيضاً. وهكذا كان التأصيل الأوّل تمهيداً لكتابة الشعر بالفصحى في السبعينيات وما تلاها، وحتى هذا الشعر لم يخلُ من المناخ الشعبي: مفردات، شخوص، موضوعات، عادات، أمكنة شعبيّة، إيحاءات، ودلالات رمزيّة. وكثيراً ما كان يوصف نتيجة لهذا المناخ، بأنّه شاعر شعبي بالفصحى. وبذلك امتلك الخصوصيّة الشعريّة ضمن هذا التوصيف حتى وإن لم يلتفت إليه معترِضاً، لأنَّ شعريته لا تقوى على تجربة مفتعلة من خارج ممكناته الذاتيّة، وتكوينه المادّي/ الروحي - شبه الريفي الذي استطال إلى نهايات المدينة.
(2)
الشاعر كزار حنتوش يكتب الشعر بتلقائيّة، غير مكترث بِطَرَقات الحداثة الشاغلة غيره، ولا حتى بالصعلكة التي تُلصق به من غير دليل يشي إلى التشابه مع شعرائها المعروفين تاريخيّاً، سوى بعض ظلال خاطفة، لأن في خجله ما يعارض اندفاع الشعراء الصعاليك المعروف باللا تلقائية.
إنّه تلقائي، سلوكاً وشعراً، وبفعل هذه التلقائيّة يكون السطح في قصيدته هو العمق، والعمق هو السطح، وكأنّه يستدرج اللحظة الشعرية بمرآة مستوية، سطحها عمقها وعمقها سطحها. إنّه يرى السعادة في هذا الاستواء ليكون (أسعد إنسان في العالم)، لأن المرايا الأخرى، المقعّرة والمحدّبة، خادعة، تستهوي مَن يتنزّه في (حديقة الأفاقين). ونزهة كزار في حديقة الصحو شعريّة الخُطى، يموّه الصحو بعثرات (النشوة)، وهي العثرات هي التي أوحت ببعض ظلال الصعلكة، لا غير.
(3)
في "الأعمال الشعرية الكاملة" للشاعر - والتي ضمّت مجاميعه الثلاث: الغابة الحمراء، أسعد إنسان في العالم، حديقة الأفاقين – تتأكد خصوصية شعريته، وهي خصوصية قائمة على ممكنات كامنة في بساطة اللغة لا لغة البساطة. واللغة في شعره زاخرة ببعض مفردات اللهجة الشعبية وأشعارها المنتقاة بحسيّة مدبّبة النهايات، حسيّة تمنح القصيدة طقساً اجتماعياً شعبياً سردياً: "مرّات في عزِّ الظهر، تأخذ أمّي للترعة قدْرَ (الفافون) / تأخذ يشماغ أبي وحضائن أختي. تهمس في أذني/ درْ بالك من قطط الجارة (أم حسين)./ مرّات في عزِّ الظهر، تأخذ والدتي منجلها وتروح/ فتتبعها كلبتنا السوداء، بالعينين الدامعتين وتغفو قرب (الكوز)".
ومن ملامح الخصوصية الأخرى، أنَّ الشاعر في قصائده يُقيم حفاوات واستعادات لشخوص شعبية، ولشعراء وأدباء معروفين له معهم امتداد علاقات شعرية واجتماعية، ولعبد الكريم قاسم، ولشهداء، ولفنانين، ولمطربين ومغنيين، ولعلاقات خاصة بعضها صدى ذكريات، ولـِ (رسمية)، ولحانات، وللوالدين، وحتى لنفسه. وهكذا تبدو القصائد وكأنّها مشجّرات عائليَّة. وهذا الجانب من الخصوصية يكشف عن نقاء روحي وعن حبٍّ، وعن تأصيل حُبٍّ يستطيل إلى البراءة القرويَّة. إنّهُ شاعر قروي متمدين: "- أمدُّ يميني وشمالي كصليب/ أتقمّص شخصية (مقداد عبد الرضا)./ - هاتي بدلتي الحربيّة/ سأُدافع عن بسمة (أفراح) التفاحيّة/ وعقال أبي القروي/ عن أشعار (الصائغ يوسف)./ - أورثت العكّاز لمن يا (رشدي العامل)/ ألـِ (عبد الخالق).. أم (حسب الشيخ)/ أم (جنداري).. أم ك . الحنتوش ..؟/ - أوثقت جناحي الأيمن بقصائد (سعدي يوسف)/ وفي الأيسر قصائد (عريان السيد خلف)./ - لا (رسمية) هذا اليوم، لا صحو غداً/ اليوم غناء تحت التوت.. وغداً تابوت".
وحين يُدخل في شعره أسماء غير عراقية، مثل: ألبرتو مورافيا، ديموكليس، بروكست، الكترا، يانوراس، غوبلز، ماشادو، لوركا، موسلين، بيتهوفن، شوبنهاور، وغيرهم. لا نجد لها وقعاً حسيّاً، كونها غريبة على تشابكاته مع اليومي العراقي، الذي يؤثرهُ. ولربّما أراد أن يوحي بأن ثقافته - وهو مثقف بحدود تجربته طبعاً- تتعدى التوصيف الشعبي.
(4)
في المفتتح الفني:
1. قصائد كزار حنتوش استرسالية سرديّة راكضة، لا يحكمها تخطيط واضح. قصائد لحظة شعرية مُداهِمة يلتقطها الشاعر بشعريته الخاصّة، ويرسلها حتى قبل أن يُراجعها أحيانا: "من زمن لا أذكره، وأنا أكره أمريكا واليقطين الأصفر/ و(أغان) تروي قصّة عشّاق.. وكلبدون/ مَن أتعسَ من حظّي..؟ كان عشائي الليلة يقطيناً أصفر/ وسمعت (أغان) تتحدّث عن عشّق وكلبدون".
إنَّ (أغان) التي تكررت مرّتين وقد وضعتُها بين قوسين، لا بدَّ أن تكون (أغاني) لأن كلاً منهما في موقع النصب.
2. الأعمال الشعرية، تضم قصائد نثر، وهي الأقل. في حين أن قصائد التفعيلة هي المتن المهيمن. ولكنَّ اللافت، أنَّ الشاعر يعتمد بحر الخبب وتحوّلات تفعيلته فقط في جميع هذه القصائد. وأرى أنَّ استرسالية الشاعر الراكضة قد ألِفت إيقاع هذا البحر، ووطّنتْ إنصاته الموسيقي عليه، ولم يعُد هنالك متّسع للخروج من هذه الهيمنة الموسيقيّة. كما أنَّ الشاعر بطبيعته غيرُ ميّال إلى (إشكاليات العروض) ولا يهتمُ بها، ولا يُريد أن يُثلم شعره حين يُحاول تجريب ما لا يعرفه (كما أفترض). والشاعر حتى وهو يكتب في بحر الخبب، لا يولي اهتماماً كاملا لعروضيّة هذا البحر، وغالباً ما يقع في النثريّة، أو حتى تسلل تفعيلات من بحور أخرى. إنّه لا ينصت إلّا لحقيقة واحدة، مفادها، أنّه يكتب الشعر بتلقائيّة، ويعزف موسيقاه على وتر واحد، وليكن ما يكون- كما كان يُردد: :لا تظلموا الحوت/ إنّه لم يبتلع القمر/ ابتلعته الهاونات والراجمات/ لا تدقّوا على الصفيح/ دقّوا أعناق الجنرالات".
3. شعريّة كزار حنتوش حتى وإن وصفت بالمحليّة الشعبيّة، إلّا أنّها بهذه المحليّة قد ملكت خصوصيّة وانفرادات في الشعرية العراقية. وهو بهذا التوصيف يتوازى - ومن دون تحفّظ - مع مَن وصفوا به في الآداب العالمية: لوركا، يسنين، رسول حمزاتوف، جاك بريفير، وآخرين.
4. في معظم شعره، كان شاعر حياة، رغم تعارضات هذه الحياة مع كل ما لا يُبقي هذه الحياة أنقى وأرقى وأبقى: "ذات ضحى/ قد أُحمل للنجف الأشرف/ لا أملك إلّا مئزري الأبيض/ وبقايا من أسف/ كون الدنيا/ لم تكن الدنيا/ ليس بمقدوري أن أمنع هذا/ لكن.. ليس بمقدور أحد/ أن يُلبسُني كفني/ وأنا حيّ".
إن أعمال الشاعر كزار حنتوش الكاملة، وثيقة لحياة (أسعد إنسان في العالم). كم كان متهكّماً بهذا الصيحة.