في وداع فاروق أوهان

ثقافة 2024/09/23
...

  د. نادية هناوي

 تمر هذه الأيام الذكرى الحادية عشرة لرحيل الكاتب العراقي فاروق أوهان الذي غادرنا في أيلول 2013. وعلى الرغم من أنه عرف ككاتب مسرحي وإعلامي متمرّس، فإنه ترك في السرد بصمات مهمة جداً نظراً لما تمتع به من تجربة خاصة وفريدة. ساعده في ذلك تعدد مواهبه الفنيّة وتنوعها. وله مجموعات قصصيَّة عدة منها (الحصان والثلج) لبنان 1997 و(هديل على الحدود) القاهرة 1997 و(رسائل حب من نيوغال) لبنان 1999 و(جنية الشقق) مصر 2000.

 وكان أوهان قد بدأ مشواره القصصي في ستينيات القرن الماضي بتمكّن كبير؛ لكن النقد العراقي جافاهُ باستثناء دراسة يتيمة للأستاذ عبد الرحمن طهمازي نشرها عام 1998 بعنوان (اللوحة القصصيَّة وعلاقات السياق) تناول فيها مجموعة أوهان (الحصان والثلج) وفيها ركّز اهتمامه على البناء السردي والتموجات الأسلوبيَّة وتوظيف الصوت والسيناريو والتقطيع في الصورة ورسم المشاهد والارتباطات الفكريّة المصورة بين الذاكرة اللا إراديَّة والذاكرة الإراديَّة وحركات الذهاب والإياب والحلم واليقظة والواقع والتخيل. غير أنه فسَّر ما في هذه المجموعة من تجريب سردي بأنّه رموز واستعارات ومصادر مبعثرة ومتلاطمة ناقصة ومتورّمة ومتقطعة كالفولكلور، مسبوكة بتصلّب غير أدبي وهو ما يحتاج برأيه إلى وضع معنى بالإحصاء أو التصنيف أو أي إجراء منهجي ممكن؛ متسائلا إن كانت مثل هذه التجارب مناسبة لأدب غير متوقع كما سماه. 

إنَّ تحديد طبيعة الفاعليّة الإبداعيّة التي بموجبها يتم إنتاج مادة سرديّة ليس بالأمر اليسير، إذ قد تكون هذه الفاعليّة مبنيّة على أسس ثقافيّة أو اجتماعيّة أو تاريخيّة ليتم صهرها بوعي كتابي في بوتقة قصصيّة، وربما يتوقف تحقق هذه الفاعلية على توفر جينوم سايكولوجي لا واعٍ، يجعل انعكاسات التشظي والتوحّد الداخلية متصرّمة خارجيّاً، وبما يكفل لعملية الإنتاج الكتابي أن تكون سرديّة. وإذا سلمنا بالاحتمال الثاني وتأكدنا أن الفاعليّة الكتابيّة هي فاعليّة نفسيّة، فعندها سيغدو العمل الفني تعبيراً يقولبه الكاتب في صيغة تسمح بتحويل الحياة الذهنيّة إلى أقاويل وأمثولات هي في حقيقتها ترويحات عن نفس لا يفارقها القلق والكآبة ولا يعتريها إلّا التشكّي والتأفّف والتأسي، أو هي تنفيسات لا واعية ورغبات مكبوتة وتخيلات موهومة تجعل الحياة الذهنيّة معكوسة في الحياة الواقعيّة حتى إذا كانت تلك الحياة مضطربة اضطربت معها الكتابة الإبداعيّة، على وفق نظرية الانعكاس اللوكاشية. وعلى الرغم من معقولية هذا الاحتمال، فإنَّ ذلك ليس عاماً فقد تكون الحياة مضطربة لكن اضطرابها لا ينعكس في الكتابة إلّا اعتياداً ومألوفيّة، وقد تكون الحياة مستقيمة روتينية لكن الكتابة القصصيَّة عنها تغدو مشتتة وفوضويَّة. وهذا التجلي الأخير هو ما نشهده في قصص فاروق أوهان القصيرة الأولى. وفيها تتخذ فوضوية الكتابة القصصيَّة سمة الانفلات على الصعيدين: الموضوعي المتحقق على صعيد الأفكار والرؤى، والشكلي المتمثل في طبيعة التنسيق الطباعي للحروف وعلامات الترقيم والوصل والقطع وغيرها.

إنَّ الفوضويَّة وحدها يمكن أن تكون إبداعاً إذا أحسن القاص اللعب عليها كتابيّاً، وجعل من ترابطها انقطاعاً ومن انقطاعها ترابطاً، وهذا مقترن بهاجس سريالي يتغلغل في الذات فيحيلها ذواتاً شتى تتصادم وتتقاطع وتتضاد. والفنتازيا واحدة من التجليات التي يتركها هذا الهاجس السريالي على الكتابة السرديّة، وكأنّها الأداة السحريّة التي بها تعلن الذات عن عواطفها في تشتتها واضطرام أوارها وقلق التعبير عنها، ناهيك عن تجليّات أخرى منها الغرابة التي تتجسّد في اللا معنى ومنها الفوضى التي تسببها لا عقلانيّة تصارع المتضادات وتنازعها الموهوم مع اللا شيء في اللا مكان. وإذا كانت التفاهة في الحياة واضحة، فاللا حدث هو سمة الهلوسة السرديَّة التي تجعل المكان هو المترشّح ليحلَّ محل الزمان والمنطق، وهو ما عملته جماليات الحركة التصويريَّة في رواية التداعي الحر (يوليسس) التي حوت صوراً جامدة تقع خارج الزمن وتقطع التعاقب وتشتت التراتب. ونعني بالهلوسة السرديَّة كل شعور نرجسي يفضي إلى مسالك الانفلات والتهرّب والانشطار والانفراط في الزمان والمكان. ليغدو الانقطاع سمة الكتابة وتكون السريلة هي الطريق الذي به يوجه الكاتب انتباهه إلى دواخل ذاته فلا يجد غير حبسة لا تظهرها إلّا الكتابة.

وكان فرويد قد فسّر القلق واللا معنى في نظريته عن الأحلام بأنّه تحقق مهلوس مدفوع بالرغبة للاستمرار في النوم. والذي يضمن للكاتب تحقق رغبته في الاستمرار في التداعي اللا واعي هو الهلوسة التي يجتمع فيها القصيد بالقص ويهيمن فيها الانقطاع على الحكي فتتحول السببيَّة إلى اللا سببيَّة، ويتفكك الترابط في الحدث باللا حدث ويتهرَّأ المعنى باللا معنى كرغبة متدارية تريد استبدال ما هو مرتّب ومنطقي بما هو مشتّت وفوضوي. 

وفي قصّة فاروق أوهان (شخص في المقعد الأخير) المنشورة عام 1966 تغدو الأحداث أشبه بمتاهة سرياليَّة ليس فيها سوى أصوات ونغمات وأجراس ورنّات وذبذبات مع بروز واضح لعلامات الحذف وتكرار حروف بعض الكلمات، مع تراكم صور التصادي والاصطدام والارتطام والاحتكاك (إنّها أخيلة… لكن الأصـوات تـرتفع… تقـوى.. تقوى أكثر… وترتفع.. عالية.. مدوية… هناك وجه يلتفت بسـرعة.. فيقول لنفسه …

–  هي ناسكة.. أو راهبة رشيقة ..لكن الأصوات السابقة ترتفع مجدداً… تقـوى.. وتقـوى، وتـدوي.. فيحاول الإسراع..، السير بخطوات واسعة.. لكن الأقدام لا تُعين… فهي محدودة الإمكانية.. والأصوات السابقة تتكرر… ربما هـي أصـوات لوقع أقدام.. لكنها كالنغمات… الأصوات كـالجوق المغنـي..، هنـاك واعظ يرشد خطيباً.. ينشد أيضاً، ليتبع أو يقود الجوق بـترهّل.. ولكـن يبدو أن الكل، وحدة متكاملة.. فرائحة مسك وبخور تعبق بالمكـان، وهـو  جالس بسكون في المقعد الأخير.. هناك إحساس بغرابة الجـو، يـؤدي إلـى الرضى .

–  لكنني لا أنتمي إلى هؤلاء.. كلا.. كلا.. ولا أريـد الانتمـاء. 

…. صـــــــــوت الجــــــــوق ينشــــــد بخشــــــــوع.) 

وفي خضم هذا الاحتشاد الصوتي يأتي مشهد مستطرد عرضي لا علاقة له بما تقدم فيه شاب وشابة يتبادلان نظرات بحوارات قصيرة ويقطع المشهد لمحة صوريَّة فيها يظهر وجه يتلصص على جوق يرتل أدعية كنسيَّة يتكرّر فيها صوت الاستنجاد والاستغاثة بتضرع وخشية (ارحمنا يا رب وارحمينا أيّتها الحنونة). 

وإذا بحثنا عن مبرّر لحشر المشهد والتصوير لم نجد سوى الرغبة في التشتت استلحاقاً بالتداعي اللا واعي في الأحاسيس المضطرمة باللوعة. ولا تمنع هذه الأجواء الروحيَّة المشبّعة بالتضرّع من أن يكون المكان منفّراً وطارداً. وتتكرّر التساؤلات بلا إجابات (ماذا تفيد المعلومات؟، لمن حقيبة العلم والمعرفة؟، أنا هو أنا دوما أتخبّط في التساؤل والشك؟). 

وما ضياع الذات إلا بسبب عدم تآلفها مع المكان ورغبتها في الهروب عنه بعيداً، عاكسة شعوراً بالتخبّط والشك والتلاشي والانهزام والندم الذي يتزامن مع الأنات الخفيفة والرنات المتقطعة حتى يتلاشى تدريجياً صوت (ارحمنا).

وبسبب ما تقدم تغدو القصّة القصيرة عبارة عن هلوسة سرديَّة علائمها الفوضى والفنتازيا واللامعقول ووظيفتها جعل العمل الإبداعي بكل ما فيه من المشاعر القلقة والأحاسيس المنفلتة والكئيبة مغطى برمزيَّة شفيفة وربما غائرة. ولا يهم الكاتب السريالي أن يكون التحبيك متوائماً أو غير متوائم بقدر اهتمامه بأن تكون الكتابة عبارة عن جرعات من التداعي الحر اللا واعي الذي به تبتعد الذات إلى أقصى حدود التغريب فلا تتعايش إلا مع التهويم.

وقد يبدو الترابط المنطقي في القصّة الموصوفة بأنّها هلوسة سرديَّة متحققاً مع أن الأفعال لا تتابع فيها، والجمل لا يسند بعضها بعضاً، لكن المفارقة أنّك تجد المعنى واقعياً أكثر من واقعيَّة قصة محبوكة النسج أوصافاً وأفعالاً عن شريحة حياتيَّة فيها الشخصية تضحك وتقهقه وتحزن وتبكي. وكان شوبنهاور قد عدَّ الموسيقى وحدها هي القادرة على تحقيق أو امتلاك الترابط المنطقي الهادف في الحياة الواعية الطموحة، وما عدا الموسيقى هو اللا شيء واللا معنى. وهذا ما يجعل هلوسة القصّة القصيرة بمثابة تعويض سيكولوجي يخفي به المرء عجزاً معيناً عن طريق التفوق في حقل معين. وليس في انسياح الإبداع فنتازيا ما هو مرضي، بل هي مفارقة المرض الذي به يصير المكتوب إبداعاً. كما أنَّ الافتتان بالمرض النفسي وتحويله إلى إبداع هو محصلة معاداة واقعيّة لحياة معيشة عدميّة. لكن ما الذي يُشعر القاص أن المعنى لديه متفلت؟، ومن الذي يعلمه أن ما يكتبه عديم الدلالة ضائع المعنى؟. 

إنَّ أنانيَّة الكتابة هي وحدها القادرة على تعريف صاحبها بأنَّ الشك في المعنى هو الذي يحقق المعنى. وللحلم القدرة على جعل رؤية الذات لنفسها ممكنة لكنّها متحيرة باتجاهات شتى يتشابه فيها ما هو أليف بما هو غريب ويكون مفترق الطريق هو اللا طريق داخل عالم من التجريد والمجاز والجموح والافراط، وعندها ستغدو الصحوة هي الغفوة واليقظة هي النوم والوعي هو اللا وعي وبهذا تتحول الكلمات إلى إشارات ومدلولاتها بلا روابط. والمحصلة مزيد من هلوسة اللاوعي والاحتدام الذاتي.

هذا ما نجده واضحاً في قصة (زوج الأرملة وحصان القائد) وقد نشرها فاروق أوهان أول مرة في جريدة النصر العراقيَّة عام 1967، وفيها ينساح تيار الوعي جاعلاً الشخصية التي اسمها حسَّان تتأزّم لا داخليّاً بل خارجيّاً أيضا في صورتين متضادتين لمرأتين إحداهما عجوز تريد أن تظهر بمظهر الشابة والأخرى أرملة مات زوجها تحت حوافر حصان القائد لكنّها تذهب عصر كل يوم لترى بطن الحصان الذي صار تمثالاً في إحدى الساحات، والغريب أنَّ المرأتين لا تتحسّران على شيء وقد بدت الحياة بالنسبة لهما طبيعيّة؛ وإنّما يتحسّر حسَّان على حياتهما وتتداعى أحاسيسه شعوراً ملتاعاً في عالم مفكك ومشتت لا يستطيع فهمه، فيفكر بالهرب منه والترحال بعيداً عنه. ولعل هذه اللا حميميَّة مع المكان هي التي تجعل موضوعة الهرب مهيمنة على قصص أوهان وتصبح مشاعر العجز والاستسلام واللا انتماء تتواتر في عموم قصصه متلبّسة بالخيبة والتيهان والصمت والنفور وترافق ذلك كله ذاكرة مصابة بالشرخ تتداعى بلا ضابط وتتبعثر متضادة، لا بسبب النسيان أو الخرف أو الغيبوبة وإنما هو التقاطع النفسي بين الزمان والمكان والذات والوطن حتى لا مرونة في الإحساس الذاتي ولا استفراد في الوعي الجمعي. وبسبب ذلك كله يصبح ما وراء هذه الفوضويّة واللا مسؤوليّة صنعة جماليّة أساسها التداعي في الشعور والانفلات في الزمان والمكان كانعكاسٍ حتميٍّ لمكان لم تعد العودة إليه عقلانيّة لكن الهرب منه حتمي ومنطقي، كتعبير عن شعور سريالي متدارٍ وحبيس. 

 


* سبق لنا أن درسنا قصص الراحل في مقالنا الموسوم (القصة القصيرة عند فاروق أوهان)