{الكونت دو مونتي كريستو} مجدداً إلى السينما

ثقافة 2024/09/23
...

 مبارك حسني

هناك روائع أدبية لا تغزوها التجاعيد، كما يقول التعبير الفرنسي، فلا تبلى ليس أدبيًا فقط، بل حتى سينمائيًا، وتظل تُقتبس مرارًا، وتنقل إلى الشاشة الكبرى، كلما وجد مخرج سينمائي فيها ما لم يره سابقوه. هي تحف أدبية تحتمل القراءات والتأويلات المختلفة، رغم أن الكل يعرف مآلات أحداثها وحبكاتها. ما يهم حينها هو كيف يستطيع السينمائي عكسها بصوره الخاصة وبنظرته للعالم ولوسيلة التعبير التي هي السينما. لذا، لا نستغرب حين لا يفتأ شكسبير أو دوستويفسكي أن يزورا الفن السابع في كل عصر وكل حقبة، منذ التحاقهما بركب الفنون.

آخر رواية نقلتها السينما، تتعلق بـ"الكونت دي مونت كريستو"، التي كتبها في منتصف القرن التاسع عشر ألكسندر دوما. تحكي الرواية كيف حيكت مؤامرة لسجن بحار ليلة زواجه لمدة أربع عشرة سنة، وعند خروجه، تمكن من الحصول على كنز، وأصبح ثريًا، وصار نبيلًا، فقرر الانتقام ممن كادوا له. هي رواية مغامرات وتشويق وتحريات، من تلك التي تسعد بها السينما أيما سعادة، شريطة أن ينجح العمل، وهو ما ليس مضمونا دائمًا.

الفيلم الحالي أشرف على إخراجه مخرجان، هما ألكسندر دو لاباتوليير وماثيو دولابورت، مما يدل على جسامة عمل كهذا. ومنذ خروجه إلى القاعات السينمائية في شهر يونيو الفائت، لاقى نجاحًا جماهيريًا وثناءً من مختلف المنابر الإعلامية المعروفة. فقد شاهده قرابة ثمانية ملايين متفرج حتى الآن، متبوئًا بذلك المركز الأول

.

قبولٌ نقديٌّ واسع 

صحيفة "لوبوان" الأسبوعية ركزت على توظيف الفضاء والغنى من حيث الأحداث، وعلى التصوير في مواقع طبيعية، ما يعزز الإحساس بالواقع الذي يحلم كل مخرج بتحقيقه. وأشارت الصحيفة إلى أن المخرجين صنعا "من الرواية الزاخرة والمشتعلة فيلماً ضخماً، وهو دراما من ثلاثة فصول تركز على قصة الحب المعذبة والانتقام، التي تم تصويرها في مواقع طبيعية".

من جهتها، أشارت صحيفة "لوباريزيان" إلى نجاح آلية التشويق والمكون الزمني، مشددة على أن الفيلم يستمر لما يقرب من ثلاث ساعات، ومع تقدم الحبكة المتشابكة، لا تنخفض حدة التوتر أبدًا. كما أشاروا إلى نجاح الممثل الرئيسي، بيير نيني، في أداء دوره ببراعة، وإلى تميز الممثلين الرئيسيين الآخرين، الذين قدموا أداءً رائعًا.

صحيفة "ليبيراسيون" أكدت أيضًا جودة الفيلم، معتبرة أنه "خطوة جديدة ضمن استراتيجية الاستفادة من أعمال ألكسندر دوما، فهو وإن لم يكن ذا طابع شخصي خاص، إلا أنه متقن للغاية. ما يميزه بشكل خاص هو حيوية فريقه الشاب من الممثلين، إلى جانب الاستخدام السخي للإمكانات المتاحة".

هذا ما أكدته أيضًا صحيفة "لوموند" حين كتبت: "تمر المشاهد أمام أعيننا كما لو كانت صفحات من رواية، لا نريد أن نفقد منها أي تفصيل. وهكذا يتولد نوع جديد مذهل: 'الصفحة المثيرة للانتباه' في السينما".

وإذا كانت هذه الردود الإيجابية توضح أمرًا، فهو حاجة السينما إلى الاستعانة بالخيال الأدبي لتجديد نفسها، خاصة إذا كانت مرتبطة بالتاريخ والملاحم التي لم تمت منذ تأسيس الإبداع على يد المسرح اليوناني، أي ثلاثية الحب والسلطة والانتقام.

أما مجلة "دفاتر السينما"، وكعادتها في التعمق في الرأي النقدي وعدم الانسياق كثيرًا للسينمائي على حساب الروائي، إلا في حالات نادرة (مثل أورسون ويلز مخرجًا لشكسبير، وكوروساوا ناقلًا سينمائيًا لدوستويفسكي)، فقد انحازت للرواية على حساب الفيلم، فكتبت: "هذا الكونت دو مونت كريستو يتصرف بتواضع شديد أمام نص دوما لدرجة أنه يصبح شبه مقدس. دون أن يطيل في شيء ودون أن يضيف الكثير، يكتفي المخرجان والكاتبان بتنظيم الفائض الروائي ويتركان المبادرة للممثلين والممثلات، الذين يشكلون جماعة متجانسة تم اختيارها بحكمة". وهكذا تؤكد المجلة نجاح الأداء 

التمثيلي.

وهذا الأمر الأخير أشارت إليه أيضًا مجلة "بوزيتيف"، ثاني أكبر مجلة نقدية سينمائية فرنسية، لكنها نبهت على أن "ما ينقص الفيلم هو عدم وجود دفعة إلى الأمام، شيء من التوتر العاطفي، من قبيل الشعلة... فلم يتمكن أي من الممثلين، رغم أن بعضهم من أفضل ممثلي جيلهم، من إشعالها، وكأنها انطفأت بسبب شخصياتهم ذات البعد الواحد (إما طيبون جدًا أو أشرار جدًا)"، أي أن قوة الشخصيات غلبت على قدراتهم التمثيلية.

وهكذا، يتأكد لنا كيف يُستعاد من جديد النقاش الدائم، الذي لازم تاريخ السينما حول بحثها عن الشرعية، والذي يظهر كلما تم اقتباس عمل أدبي سينمائيًا. وفي ذلك دليل قوي على الأقل على حيوية السينما.