صراعات الوعي الفلسطيني

ثقافة 2024/09/24
...

 سلوى عباس

ندوات كثيرة وقراءات نقدية تناولت رواية "قناع بلون السماء" للأديب والشاعر باسم خندقجي الأسير في سجون الاحتلال، والفائزة بجائزة الرواية العربية "البوكر" لهذا العام، وقد تباينت الآراء وتنوعت حول الرواية حيث هناك من يرى أنها تستند إلى مرتكزات عدة كـ "التاريخ والآثار والأفكار والعقائد وما يرويه العقل الجمعي عن الأمكنة والأزمنة"، وهي كذلك حكاية اجتماع الأسئلة والهواجس والمخاوف والآمال الدائرة ما بين "أم عدلي" وابنها "مراد" السجين المحكوم عليه بثلاثة مؤبدات، وحكاية المعطف القديم الذي اشتراه "نور" بطل الرواية من دكان الملابس العتيقة في السوق والهوية الزرقاء الإسرائيلية التي وجدها في جيب المعطف باسم "اور شابيرا" والتي ستصبح قناعاً له يخوّله إنشاء علاقات مع الإسرائيليين واجتياز نقاط المراقبة والحواجز ودخول جميع الأماكن والمؤسسات وحضور الندوات والمحاضرات.
رأي آخر رأى أن الرواية لا تنتمي لأدب السجون، "لأن صاحبها يقدم عملاً يخترق جدران السجن، ويختزن من الإبداع الأدبي ما جعله ينال جائزته عن رواية تدور أحداثها في أقل من شهر، وقد امتلأ بارتدادات زمنية عميقة ضمن فضاء روائي كشف عن مقدرة معمارية هائلة في رسم خارطة الأمكنة والفضاءات التي وردت فيها، إضافة إلى أن الأسلوب المبتكر والمغامرة في تجريب صيغ سردية جديدة أنقذها من براثن الخروج عن الفن، فنسج حكاياته بصنارة الهوية تارة والتاريخ تارة أخرى والواقع الراهن بعدها، لتكون رواية مواكبة لبناء الرواية الحديثة وأشكال التجديد التي طرأت على سيرورتها، كالأصوات المتعددة من راوٍ عليم إلى رواية تاريخ، إلى حبكة وسرد مشوقين بلغة زاخرة بالإشراقات الجمالية والشاعرية".
ناقد آخر أشار إلى أن الرواية تمثل "سردية الوعي الفلسطيني الذي يتجاوز زمن الاحتلال نحو أفق إنساني تحرري يتوق للعدل والحرية والانعتاق. رواية الأسئلة القلقة التي لا إجابات نهائية لها، ليبقى سؤال الهوية لا ينفك الروائي عن امتحانه طيلة الأحداث، فيتحرك أبطاله على مسرحها ضمن هذا السؤال، من دون أن تتخفف من شعريتها المقتصدة والمكثفة على نحو يمكّن القارئ من الدخول إليها قبل عام من النكبة إلى ما قبل الميلاد، ليقصّ علينا كاتبها السردية الأصلية المهمشة لفلسطين المطمورة تحت التراب بكل تاريخها، وذلك هو خطاب الرواية في ختام مقولاتها وتضافر عناصرها الفنية".
بينما رأي آخر يرى أن الكاتب يبحث من خلال روايته عن الوجود والهوية عبر أسرار الأرض التي يعشقها بما تخفيه من آثار وتاريخ، مطلقاً العنان لمشوار فلسطيني متخيل لا ينفصل عن الواقع بقدر ما هو تجسيد له، يعاينه ويبحث عن المسكوت عنه للوصول إلى الحقيقة المطلقة المطمورة لإثبات الوجود، وهي وإن كانت رواية متخيلة في أحداثها ومجرياتها وحواراتها، لكنها جدل في الواقع الفلسطيني بمستوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والكفاحية، وتجيب على أسئلة الواقع السياسية وراهنيته في رحلة بحث عن حقيقة وطنية تاريخية أريد لها الاختفاء من التاريخ، عبر مصادرة الأرض والتاريخ معاً وهي بذلك رواية كفاح وتضحية ووعي وموقف وثقافة".
إن فوز الرواية بالجائزة دليل على قوة الإبداع الفلسطيني وكسره لكل القيود وتخطيه الصعاب والإصرار على النجاح، فهي ليست مجرد رواية، بل مرآة تعكس صراعات الهوية والحرية، وتتحدث بصوت حقيقي عن القضية الفلسطينية العربية الإنسانية، ومن جانب آخر أعاد فوز الرواية الثقة إلى حد ما، بمعايير الجائزة التي كان يحكمها، كما غالبية الجوائز الأخرى، الاعتبارات الشخصية والسياسية وليس الإبداعية.
"قناع بلون السماء" تدخل في إطار سردية البحث عن الجذور والكشف عن الحقيقة، التي لا تسقط بالتقادم على الإطلاق، زخم الحقيقة التي لا تموت، وتظل تحفظ أصوات ضحاياها، كما أنها أول رواية عربية تتوّج بجائزة كتبها أسير في سجون الاحتلال منذ عشرين عاماً، إذ لم يمنعه أسره وآسروه من التحليق خارج أسوار السجن ليكتب روايته بروح حرة طافت الأرض الفلسطينية، حيث لا يزال خندقجي يؤرّق المحتل الصهيوني بفضحه لسرديته بمقالاته ورواياته المهرّبة من السجون الإسرائيلية، لتعانق سماء الحرية وفضاء النشر، فارضة نفسها بقيمتها الإبداعية، فهو على الرغم من انقطاع مسيرته الأكاديمية كطالب في قسم الصحافة والإعلام، التي كان يتابعها في "جامعة النجاح الوطنية" بسبب أسره، فقد تمكن من الحصول على إجازتي البكالوريوس والماجستير في "الدراسات الإقليمية- مسار الدراسات الإسرائيلية" من جامعة القدس، ويعمل حالياً على استكمال دراسة الدكتوراه وهو في الأسر، كما ينشر أبحاثه في مجلة الدراسات الفلسطينية، وقد أصدر مجموعتين شعريتين: "طقوس المرة الأولى"، و"أنفاس قصيدة ليلية"، وأصدر أيضاً خمس روايات، هي: "مسك الكفاية: سيرة سيدة الظلال الحرة"، و"نرجس العزلة"، و"خسوف بدر الدين"، و"أنفاس امرأة مخذولة"، وعمله الأخير "قناع بلون السماء"، وهناك عدد من المخطوطات الروائية قيد النشر، وهنا نشير إلى أنه حين يكتب أسير فلسطيني مناضل رواية ينبغي أن نقرأ هذه الرواية في ضوء خصوصيتها وسياقاتها، وما يمكن أن تحتمله من رؤية جديدة يمكن أن تشكل إضافة للسّردية الفلسطينية.
يتغلب خندقجي على سجنه بالحلم والبحث والتعلم والترفع عن الألم، ويمارس الكتابة وكأنه يعيش حياة الأحرار، مؤكداً أن الأفكار لا تموت بموت أصحابها أو سجنهم أو نفيهم ولا بإعدامهم، بل إنها تسبح وتبحر في فضاء الحلم حتى تتحول إلى قضية، وإلى عقيدة ومنهج ومصدر إلهام، لأن الأفكار حرة لا تموت، وبذلك تعلن الرواية الحب والصداقة هوية للإنسان فوق كل الانتماءات، فطوبى للأديب والشاعر باسم خندقجي ولكل القابضين على الجمر يخيطون من الغيوم إرادة، ومن أرواحهم يتسلل الضوء لنصرة وطنهم وعدالة قضيتهم.