الرؤية الأسلوبيَّة للكتابة النقديَّة

ثقافة 2024/09/29
...

  محمد صابر عبيد


لم تعد الكتابة النقدية كتابة هامشية على تخوم النص الأدبي لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تتعالى على كونها عالةً عليه، وتحولت إلى كتابة نوعية لها تقاليدها وأعرافها وقيمها الخاصة، بعيدا عن أنها كتابة تابعة للنص الأدبيّ، إذ تحوّلت إلى كتابة ثانية ترسم حدودها بنفسها ولا تعوّل إلا على نموذجها في ترتيب منزلها وتثبيت شخصيتها. من هنا تحتّم عليها أن تقدّم خطابها استناداً إلى رؤية أسلوبية تنطلق منها وتؤسس عليها، ولا بدّ لهذه الرؤية الأسلوبية أن تتحرّى خصائص أسلوبية خاصة بنموذج هذه الكتابة وطرازها النوعيّ، بوصفها كتابة خاصة لها منهج وطريقة وفعالية قرائية لا تمتّ بصلة إلى أية كتابة إبداعية أخرى، على الرغم من أنها تشتغل في إطارها وداخل فضاءاتها وعلى حسابها أيضاً. وإذا ما أردنا أن نحدد المفهوم العام للرؤية الأسلوبية بوصفها دالّاً على الطريقة التي يكتب بها الناقد نصّه النقديّ والأديب نصه الأدبيّ، فإننا يجب أن نعرف - كما يذهب إلى ذلك الكثير من الأسلوبيين والنقاد الألسنيين- إلى أنها ظاهرة لغوية أسلوبية نصية متكاملة تحقق وتنتج ما نصطلح عليه "الخطاب".

إن ثلاثية النص والفرادة والأسلوب هي المكوّن الأساس للرؤية الأسلوبية، وهي تميز نص عن نص، وفرادة عن فرادة، وأسلوب عن أسلوب، على النحو الذي يطبع كل طراز كتابي بشبكة من الخصائص الأسلوبية التي يمكن من خلالها تأسيس تصوّر عن طريقة الكتابة ومنهجها ومن ثم رؤيتها. وإذا كانت نصوص الكتابة النقدية - كما تبدو للكثيرين- أضعف النصوص الأدبية في إمكانية تحقيق هذا المنجز الأسلوبيّ لصالحها، فنحن نعتقد أنّ بوسع الناقد الذي يهتمّ بهذا المفصل المركزيّ من مفاصل مشروعه النقديّ، أن يشتغل على تمتين خصائص أسلوبيته الكتابية وتحقيق نتائج كبيرة على هذا الصعيد، لما يمكن أن تمنحه الكتابة النقدية من سبل خصبة وثرية يتعالى فيها النصّ على ذاته المجردة ويدخل في فضاء أسلوبيّ خاصّ، يتضاهى فيه مع النص الأدبي الذي يشتغل عليه ويتوازى معه أسلوبياً، بحيث لا يقرأ النصّ النقديّ بوصفه دليلاً مجرّداً للنص الإبداعيّ؛ بل يقرأ بوصفه نصاً جديداً، يقدم نموذجه الخاص في الكتابة أولاً ثم يفتح سبلاً إضافية موسّعة ومعمّقة لقراءة النص الأدبيّ الذي اشتغل عليه.

  من هنا يكون بوسعنا التحدّث عن رؤية أسلوبية خاصة للكتابة النقدية، تعمل لحسابها بصرف النظر عن النص أو الظاهرة الأدبية التي تمثل ميدان رصدها وقراءتها ونقدها، وكلما تمكّن النص النقديّ من تحقيق توصّلات باهرة على صعيد قراءته في النص أو الظاهرة؛ انعكس هذا إيجابياً على القيمة الأسلوبية لكتابته النقدية، لأنّ ثمة ارتباطاً أسلوبياً وثيقاً بين حساسية القراءة وطبيعتها وكيفيتها من جهة، والتحصّل على نص نقديّ يتمتع بقيمة أسلوبية عالية من جهة أخرى.

 ترتهن الرؤية المنهجية عادةً بطبيعة الفكر النقديّ الذي يلهم الناقد سياسته النقدية في كل تجربة كتابية، فضلاً عن طبيعة الكتاب الذي يشتغل عليه بما ينطوي عليه من قضايا ومشكلات وتصورات، وما تحتاجه الرؤية من أساليب معالجة ونظر وتناول وقراءة -مراجعةً وتحليلاً وتفسيراً وتأويلاً -. بعد ذلك يتحدد مسار التصوّر الكتابيّ بحسب كفاءة الأدوات والعّدة النقدية التي يحملها الناقد، ومستوى صلاحية شبكة المصطلحات والمفاهيم والإجراءات العاملة على هذا الصعيد، وقدرتها على أن تشحذ إمكاناتها وقدراتها بكامل طاقته الإنتاجية في ميدان العمل.

إنّ تحويل الرؤية المنهجية إلى تصوّر كتابيّ، يعني القدرة على تنفيذ الفكرة بتحويلها إلى كتابة، وهذا قد لا يتأتى بسهولة إلا إذا استطاع الناقد أن يُوجِد صيغاً حيوية وفعّالةً تضبط مسافة التحويل، لأنّ عدم ضبطها يخلق نوعاً من الخلل في انتقال الفكرة المنهجية وحواضنها إلى الميدان الكتابيّ، وهو ما ينأى بالتصوّر الكتابيّ عند إنجازه بعيداً عن الرؤية المنهجية فيخرجا معاً خارج المجال النقديّ. وعلى الرغم من أهمية الرؤية المنهجية في خلق استعداد منظّم وتهيئة أجواء صالحة للإجراءات النقدية، إلا أنّ عدم نجاحها في إنشاء تصوّر كتابي لها يتلاءم من طبيعتها وكيفيتها وخصائصها المنهجية، من شأنه أن يُبقي الرؤية المنهجية في دائرة النظر والتفكير ولا يكون بمقدورها أن تتدخّل في المجال النقديّ الحيويّ، الذي يجعل منها فعالية مركزية داخل نظرية الأدب قادرة على التعبير عن ذاتها من خلال الميدان الإجرائيّ، وهو يمنحها معنى واضحاً عملياً قادراً على التأثير والتغيير في الوسط الأدبيّ على مستوى النصوص والظواهر.

لذا فإنّ النجاح في إيجاد تصوّر كتابيّ للرؤية المنهجية يقرّب مفهوم النقد كثيراً من آليّة التحقق في الميدان، لأنه بانفتاح الرؤية المنهجية على تصور كتابيّ ملائم لها ومتوافق من طبيعتها؛ تتحول من رؤية ذهنية ذات طبيعة نظرية إلى مفردات حيّة تلامس أدوات العمل وعدّته، على النحو الذي تكون فيه قابلة تماماً لتصريف مكنوناتها من خلال معاينة النصوص أو مقاربة الظواهر. وفي الوقت الذي تكون فيه الرؤية المنهجية قد خضعت عملياً للتصور الكتابيّ المطلوب وتصبح في متناول الأدوات، تتكشف هذه الأدوات المدعومة بالخبرة والثقافة والوعي والمعرفة والتقاليد المهنية عن قدرات وفعاليات مهيّأة تماماً للعمل، ومن هنا تبدأ آليّات العمل النقديّ الذي يستجيب لشخصية الناقد المؤلَّفة من هذه الإمكانات كلّها، بحيث تنجز ما يشير إليها ويعزز مكانتها ويطوّر أسلوبيتها؛ في السبيل إلى تكوين الصوت النقديّ الذي يعبّر عن متن متميز ومختلف.