عدنان الشيخ عثمان.. الثراء الحركي للتراكيب الخطيَّة

ثقافة 2024/09/30
...

 مرتضى الجصاني


سرت التراكيب الخطية منذ نشأتها على وفق قواعد وقوالب كلاسيكية مدروسة، أسهمت هذه القوالب في ترسيخ القيم الجمالية الخطية من جهة، وثبات حالة التكرار والتقليد من جهة أخرى. والتركيب الخطي هو مجموعة من القوانين أو القواعد الهندسية الجمالية، المقرونة بقوة الحرف لتكوين عمل فني متكامل، يتسيده الهيبة والجلال في أغلب النصوص المكتوبة، كونها نصوصاً قرآنية أو أحاديث مقدسة. استمر هذا النوع من التراكيب قروناً من الزمن، وأصبح أشبه بالبديهيات في الأعمال الخطية. ونادراً ما نرى تركيباً خطياً مبتكراً أو مكتوباً بشكل حديث، حيث اتخذت الأشكال الهندسية الثيمة الأساسية للأعمال، الدائرة والمستطيل والشكل البيضوي، ومحاولة اللعب داخل هذه الأشكال، هذا إذا كانت هناك محاولة لكتابة نص جديد.
تركزت أعمال الخط العربي على نوعين من الخطوط المطاوعة في التركيب، خط الثلث الجلي، والخط الديواني الجلي، وقد أبدع الخطاطون الأتراك في النوع الأول، وبقي النوع الثاني الخط الديواني الجلي يتخذ شكلاً واحداً تقريباً وهو الشكل "الزورقي"، على الرغم من بعض المحاولات في كتابة تكوينات جديدة، لكنه لم يتجاوز هذا الشكل الفني، وبدوره وصل إلى الخطاطين العرب منذ بداية القرن العشرين. وبعد خفوت الدولة العثمانية وذبول سلطتها، لم يغير الخطاطون العرب شيئاً من هذا الإرث الفني، الذي عاد بشكل آخر للدول العربية بعد رحلة طويلة من التطوير والتغريب. التطوير من جهة الشكل الفني للحرف، والتغريب من جهة المضمون اللغوي والتركيبي.
إن محاولات الخطاطين العرب في بداية القرن العشرين كانت منصبة على إتقان الشكل الفني، من دون التأمل في مضمون النص، لذا كانت التراكيب الفنية محكومة الشكل، لا يمكن التعبير من خلالها، أو قراءة النص قراءة فنية قبل الدخول في التركيب الفني، وهذا ما أثار انتباه الخطاط عدنان الشيخ عثمان المولود في حمص ١٩٥٩.
ربما وجود بعض النماذج الخطية التي تغرد خارج سرب القوالب الفنية الجاهزة كان موجوداً، لكنه بالتأكيد نادر يتوزع في حالات وامضة هنا وهناك، حالات تخلو من الدراسة الحقيقية للنص قبل الدخول في تفاصيل التركيب الفني. من هنا كانت محاولات الشيخ عثمان في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، جادة حقاً في إيجاد صيغة نظرية، ومن ثم صيغة عملية للعمل الفني تحكم عملية التكوين من الناحية الشكلانية، ومن ناحية مضمون النص أيضاً، لذا يضع منهجاً يعتمد على "المشق البَصَري" مطولاً، بغية اتقان الشكل الفني للحرف قبل "المشق اليدوي". والمشق هنا يراد به تمرين العين على شكل الحرف، وهو جزء يختص بالجانب العملي لقوة الحرف، ومرحلة أولية لديه في العمل الفني، من ثم ينتقل إلى مرحلة نظرية أخرى وهي مرحلة دراسة النص المراد كتابته، من حيث المضمون ومخرجاته الحركية. فمضمون النص وتراتبيته القرائية  ضرورة وبديهية في العمل الخطي، لكنه يبحث عن مخرجات حركية للعمل في كل تركيب وفي كل نص. وإذا اطلعنا على أعمال الخطاط سنجدها حالة خاصة لا تشبه أحداً، لا من حيث التراكيب الخطية ولا حتى من حيث النصوص المختارة للعمل الفني، إضافة إلى ذلك يركز الشيخ عثمان في أعماله، على الانفلات الحركي والثراء الديناميكي في التركيب الفني، وهذا التوجه بحاجة إلى مراس خطي كبير وخبرة فنية عالية وعين ثاقبة، وبحكم تعمقه في اللغة وفي قواعد الخط العربي استطاع أن يصل إلى مبتغاه في هذا الجانب، يمكن أن نجد الانفلات الحركي والثراء الديناميكي في أعمال عدنان الشيخ عثمان في كل لوحة، كما يمكن عد بعض أعمال الشيخ عثمان أعمالاً خطية تعبيرية، لكن السمة البارزة والثابتة لمسيرته الإبداعية هي تناغم الإيقاع الحركي والانفلات المفاجئ، الذي ينقل العمل الخطي من نصوص ساكنة جامدة على السطح، إلى أعمال تنبض بالروح والحركة يمكن أن تحاكي المتلقي بسهولة، هذا الانفلات الحركي من القالب الكلاسيكي هو كسر للمنظومة القائمة على أسس هندسية متعارف عليها، وهو بالوقت ذاته يصنع منظومة منهجية خاصة به من حيث التركيب الجمالي للنص، بمعنى أن تراكيبه ليست حالة فوضوية خارجة عن الأسس التركيبية بل على العكس تماماً، هو يضع منهجاً فنياً وهندسياً بديلاً يحكم النص من خلاله، هذا المنهج يتناغم مع ذوقه الفني المتصوف، من حيث السكون والحركة، من جهة ثانية تتنوع أعمال الخطاط عدنان الشيخ عثمان بين أنواع الخطوط بإجادة تامة وتصرف حركي يمكن أن يطبقه على أي خط من الخطوط العربية المعروفة إذا شاء ذلك، فالنظام الحركي الذي ينتهجه الشيخ عثمان هو منهج وأسلوب يمكن أن يعطي ثماراً جمالية مذهلة، إذا ما تم تطبيقه بالشكل الفني الحقيقي، لذا تكمن أهمية أعمال الخطاط عدنان الشيخ عثمان بكونها مؤسسة لمنهج جمالي يتخذ الأسلوب الحركي ثيمة في التركيب الفني،  من دون المساس بقواعد الخط العربي المعروفة، بل يتطلب هذا النهج الفني إجادة حقيقية للحرف وقوته. ومن الجدير بالذكر أن هذا المنهج الفني وجد تجاوباً ومحبين حتى أصبح أسلوباً مميزاً بين تلاميذه ومريديه.