د.حيدر علي الاسدي
ندرك جيداً معنى "المقاومة" التقليديَّة التي تحدث عبر "السلاح"، وهي مقاومة يتطلب معها العنف والتنظيم والجهد والمال والدعم اللوجستي، وربما تكلّف الأرواح والخسائر المادية والمعنوية. وتحدث أيضاً في الحروب والانقلابات والمناوشات التي تجري بين بلدان تعاني من الأزمات الدوليّة، ولكن أنا أتحدث عن نوع آخر من المقاومة ألا وهي "المقاومة الثقافيّة" بشكلها الحضاري والفكري، وهي أشبه بمقاومة اللا عنف أو السلام وفقا للفهم الغاندي، ولكنّها هذه المرة بشكل خطاب آخر يتخذ مسارات عدة ومنها "التحريض/ التثوير/ اليقظة/ المحاولة الإصلاحيّة والتغيير". إذ حفلت الخطابات الأدبيّة بأجناسها كافة بحضور مثل هذه المقاومة الثقافيّة في كتابات العديد من الذين وظفوا أدبهم لإحداث الأثر في الجماهير ومقاومة سلطات الاستبداد والعنف والتعسف، ومنهم بالتأكيد الألماني برتولد بريخت الذي حاول أن يسهم بيقظة الجماهير إزاء ما يجري من خلال الحكم النازي من خلال فلسفة المسرح الملحمي "محاولة التغيير/ محاولة فضح نظام هتلر وحزبه النازي" ومحاولة تقديم رؤية استشرافية واستراتيجية لما سيؤول اليه الوضع في البلدان الاوربيّة، وكذلك قدم الألماني هاوبتمان رؤيته التثويريّة مع الطبقة العماليّة فقد كان هو وبريخت وآخرون يميلون إلى الفكر الاشتراكي الذي يسعى إلى الاصطفاف مع الطبقة البروليتارية والإيمان المطلق بضرورة "ثورة الطبقة العماليَّة" وسيادة هذه الطبقة في ظل الصدع الحاصل بنظام الطبقات واستئساد الطبقة الرأسماليّة، وتمكنها من الانخراط مع شكل الأنظمة الحاكمة في اوروبا. وفي الأفكار نفسها انضم برنارد شو في معرض إيمانه بالاشتراكية الفابية وتطلعاته الاشتراكية التي صورها في كتاباته حتى تلك التي صور فيها حياة البؤس للقاع ومعضلات المجتمع الأوروبي، ومثل ذلك فعل بيتر فايس في مسرحه التسجيلي وإدانة الحروب ومنها الحرب الامريكيّة على فيتنام وكذلك ملاحظاته على الثورة الفرنسيّة ومالاتها.
وفي عصرنا الحالي فعل ذلك الكاتب البريطاني ديفيد هيد في "أشياء تحدث" و "اللحظة الحرجة" حيث يعري النظام الأمريكي في حروبه على العراق، وكذلك يظهر الأمر جلياً في أدب أمريكا اللاتينية، ولا سيما روايات غابريل ماركيز ومسرح المقهورين بوساطة "اوغست بوال" وكيف حاول الارتقاء بطبقة الفلاحين والعمال والإسهام بتغييرهم وتعلّمهم، وكذلك كانت تفعل الفرنسية "اريان منوشكين" ولكن بوعي سياسي واجتماعي في محاولة زرع بذرة التغيير في بنية المجتمع الأوربي، وأيضا تناول العديد من الكتاب قضايا الثورة والصراع الطبقي والوقوف ضد الحرب وتعرية الأنظمة الحاكمة، وإن كانت زوايا رؤيتهم أحياناً فلسفيّة ومنهم سارتر وكامو، فضلاً عن ظهور مصطلح أدب المقاومة أو أدب الثورة وبخاصة في ظل الكتابات التي اصطفت مع القضية الفلسطينية، وكذلك مع الجزائر ضد المحتل وسياساته ومع البلدان التي احتلتها أمريكا خلال تعاقب الحقب التاريخيّة، والأمر ينطبق على كم القصائد الثوريّة التي حفل بها التاريخ الأدبي ولا سيما في منطقتنا العربيّة فالشعر في بلداننا العربيّة أكثر الأصوات التي تسعى لتثوير الجماهير وطالما حضر الزهاوي والسياب وحتى الجواهري في محافل التثوير الثقافي والفكري للجماهير من أجل المطالبة بحقوقهم وبدرجة اقل القصة القصيرة جدا أو حتى جنس الرواية لطابعها الاجتماعي الإنساني على عكس الصوت الشعري الذي يندرج من ضمن مسار الالقاء التحفيزي من خلال المنصات وحتى مواقع التواصل الاجتماعي وما انتجته المدونات "والبوستات" من اسهام فعلي بثورة الربيع العربي والحراك الشبابي وتشرين، وغيره من المقاومة الفكريّة لكل المظاهر السلبيّة سواء كانت بشكل النظام الحاكم أو عبر المظاهر السلبيّة في المجتمع، فيحضر صوت الاديب ثورياً هادفاً في محاولة للسعي لتصحيح المسار وتصحيح الراديكالية على مستوى الأصعدة المتنوعة اقتصادية أو سياسية أو حتى اجتماعية، لأن الفنان والأديب هو مرآة لمجتمعه ومن خلالها يمكن إيصال صوت الالاف، بل الملايين الذين يعجزون عن إيصال صوتهم فيكون صوت الكاتب هو المقاومة الحقيقية لتلك الطلعات التي يبحث عنها إنسان القاع الذي ينحدر من مختلف الطبقات.
إنَّ الادب ولا سيما المرئي منه وفي ظل التطورات التكنولوجيّة أصبح أحد أهم الخطابات التي تؤثر في الجماهير، بل واحد أهم مزايا الخطاب الساعي للإطاحة بكل السلبيات في المنظومة السياسية والاجتماعية.
اليوم يشكل الخطاب الثقافي ضرورة كبرى في ظل ما يمر به وطننا العربي من مآسٍ عديدة ليس آخرها معاناة شعبنا وأهلنا في فلسطين ولبنان، وما أحوجنا لمقاومة ثقافية بالقلم والخطاب فالكلمات هي بناء وهدم وهي توازي الرصاصة من حيث الوعي والتأثير السلبي على المقابل، وعلينا أن نستغل كل المنصات الثقافية، وكل الخطابات الأدبيّة وتوجيهها نحو بوصلة الشعوب المظلومة التي تقتل بدم بارد وتحت أنظار العالم. على جميع الأدباء والكتاب أن يوظفوا أقلامكم بتعبئة واضحة لنصرة صرخات الأمهات والأطفال الذين يعانون شظف العيش في فلسطين أو حتى لبنان جراء التعسّف الذي يمارسه الطغاة والمستبدون بوجههم الجديد فنفس صور الظلام والموت المجاني والقتل العشوائي تتكرر، ومن لا يستطيع حمل البندقية للدفاع عنه وطنه وشعبه ومجتمعه عليه أن يحمل قلمه ليوجهه ضد كل من يريد أن يقتل الإنسانيّة من دون وجه حق ولكل السرّاق والفاسدين والقتلة الذين يهيمون على رقاب الضعفاء من أبناء هذا العالم، على الكاتب بخطابه الفكري أن يقاوم كل اشكال الاستعمار بصوته الهادر ووعيه الراجح وفكره الناضج الذي ينبغي أن يحضر في كل المواقف الإنسانيّة.. فهو صوت من أجل الإصلاح السياسي والاجتماعي وإحياء الإنسان بدلاً من تركه يموت تحت صمت مطبق.