غسان كنفاني.. المرأة في ثوبها المطرَّز بالخيوط الحمراء

ثقافة 2024/10/07
...

   بسام سفر     


تظهر الباحثة لبنى عبد العزيز الغصين مدى اهتمام المبدع الراحل غسان كنفاني بالمرأة في رواياته وقصصه القصيرة على حد سواء، إذ أنه لم يقدم المرأة الفلسطينية من خلال رؤية واحدة، بل قدمها في مختلف صورها وأوضاعها الاجتماعيّة عبر نماذج متنوّعة.


المرأة الأم 

تؤكد الغصين أنّه لا تخلو رواية أو قصة فلسطينية من وجود الأم في الأدب الفلسطيني، وبهذا يظهر دورها في الحياة، وكثيراً ما تماهت صورة الأم مع صورة الأرض "الأم الأولى"، والرحم الأول الذي خرج منه الإنسان "الأرض هي المرأة والمدينة وكلاهما رحم وموطن ومنبع خير وحياة".

وأهم الأمهات في أدب غسان كنفاني "أم سعد" أم فلسطينية، تحيا الغربة ومرارتها والفقر وإذلاله" تقطع أيام الأسبوع جيئة وذهاباً، تعيش عمرها عشر مرات في التعب والعمل كي تنزع لقمتها النظيفة، ولقم أولادها.

 فهي تتعهّد ولدها حتى يكبر ويشب رجلاً، إنّها لا تبخل به على الوطن"- يا ابن عمي أريد أن أقول لك شيئاً، لقد ذهب سعد:

- إلى أين؟

- إليهم

- إلى الفدائيين".

وتبين الباحثة الغصين أنّ الأم الفلسطينية لا تحزن، بل تفرح وتفخر وتتمنى لو أن عشرة من الأبناء تدفعهم ثمناً لفلسطين، لذلك تفخر بالذين يدفعون الثمن من أبنائهم، بينما دفق الحب يفيض، فيغمر المناضلين جميعاً، فهي تراهم جميعاً "سعداً". أم سعد المعطاء زرعت جذور العشق الفلسطيني في روح ولدها سعد، واستمرّت في الزرع في ابنها الأصغر سعيد بين صفوف المتدربين "الذين يقفزون عبر النار ويزحفون تحت الأسلاك ويلوحون بأسلحتهم".

الأم الثانية في الرواية ذاتها، تلك التي لا نعرف اسمها ولا ملامحها، غير أنّها "امرأة في ثوبها الريفي الطويل الأسود"، وكأنّها حَوَتْ أمهات فلسطين كلها، فجاءت صورتها للمرأة الفلسطينية في "ثوبها الطويل المطرز بالخيوط الحمراء" شبيهة بأم سعد في عمرها "وفي قامتها العالية الصلبة"، هذه المرأة الرمز يوظفها غسان كنفاني لنكون صورة لكل أم فلسطينية تحتضن أبناءها، وتكون سببا في نجاتهم برغم الخطر.

أما في رواية "عائدٌ إلى حيفا" نجد صفية التي يفاجئها هجوم اليهود على حيفا، وهي في بيتها مع رضيعها "خلدون"، وهي لم تعتد حياة المدينة ولم تتقبلها، ولم تعرف غير زوجها لذلك "كانت تفكر به، عندما جاءت أصوات الحرب من وسط المدينة حيث تعرف أنه هناك، وكانت تشعر أنها أكثر أمنا فالتزمت البيت فترة، وحين طال غيابه أسرعت إلى الطريق". 

وحين تلقى زوجها وسط الزحام، تقرر أن تعود، إذ تذكرت رضيعها الذي تركته في البيت ودفعهما السيل البشري من دون أن يكونا "قادرين على الإحساس بأي شيء، وفقط حين عمَّهما الرذاذ المتطاير من تحت خشب المجاذيف، ونظرا إلى الشاطئ حيث كانت حيفا تغيم وراء غبش المساء وغبش الدموع".

هذه الأم تمضي عشرين عاماً تقتات الحزن وتتجرّع تأنيب الضمير، برغم مئات المحاولات للبحث عن خلدون، تنتهز فرصة فتح بوابة "منذ اليوم" لتعود مع زوجها على بصيص أمل حزين في العثور على ولدها.

وعند العودة إلى حيفا لرؤيته، خلدون لم يعد "خلدونا"، بل أصبح "دوفأ"، وصار جندياً في الجيش الإسرائيلي "لقد علّموه عشرين سنة كيف يكون، يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الأكل والشرب والفراش (...)، انتهى الأمر سرقوه".

هذا اللقاء حول صفية إلى أم محطمة فاقدة لكل أمل في استرجاع فلذة كبدها، إنها لحظة اليقين، يقين فقدانها لولدها وإلى الأبد، بل وتحوله إلى المعسكر المعادي.

 أن تفقد الأم الفلسطينية ولدها شهيداً، فهذا أمر تحتمله وتباركه، أما أن تفقده فلسطينياً، ليعيش إسرائيلياً، فهذا ما شاخت بسببه صفية.


المرأة الثوريَّة 

تصف الباحثة الغصين وضع المرأة الفلسطينية بأنّها عاشت ظروف الاحتلال والقمع الصهيوني في الداخل، كما عاشها الرجل، وتحمّلت أوضاع التشرّد والمنفى، وتجرّعت مرارة الغربة كما تجرّعها الرجل، بل وربما بجرعات أكبر وأشد مرارة، لما تمتاز به المرأة عموماً من رقة الطبع ورهافة حس وتعلق فطري بالأهل، وانتماء غريزي للوسط الاجتماعي الذي نشأت فيه، لذلك عندما ثارت المرأة على وطأة الألم، كانت ثورتها مركبة، وكانت ثائرة أكثر من ثورة. فإذا كان الرجل العربي ثائراً على الاحتلال وما يمثله من قهر قومي، وعلى علاقات الإنتاج وما تمثله من قهر اقتصادي واجتماعي، فالمرأة العربية (الفلسطينية) ثائرة مثله على القهرين، كما أنها ثائرة على واقعها الاجتماعي الذي يكبلها. قدم غسان المرأة في إنتاجه الأدبي في المدينة وفي الريف وفي المخيم، وعرضت الغصين إلى نوعين من المرأة الثوريَّة، النوع الأول المرأة في المخيم والنوع الثاني المرأة الثوريَّة المثقفة في المدينة.

أ- المرأة الثوريَّة الكادحة  

عملت الباحثة الغصين على تظهير الموقف الطبقي لغسان كنفاني في رواية "أم سعد" حيث الانحياز الكامل للإنسان الكادح الذي أصبح غسان مدرسة لا بدَّ أن يتخرّج الكتاب فيها، فالرواية رمزاً للتحولات التي عاشها الشعب الفلسطيني بعد نكسة حزيران 1967، وتصويراً لواقع المخيمات ببؤسه وألمه وفقره، هذا الواقع الذي مثلته "أم سعد" المرأة الفلسطينية اللاجئة الكادحة في إحدى مخيمات لبنان، والتي تعاني الفقر وبطالة الزوج، فتعمل في خدمة البيوت "كي تنتزع لقمتها النظيفة، ولقم أولادها".

"أم سعد" بحسّها الثوري العفوي أدركت الانتظار لن يعيد أرضاً أو يسترجع حقاً، وأنه لا بدَّ من عمل يمتاز بالقوة "أقول لك إنني لحقت به، أخذت طريقاً مختصراً وقابلته قرب مدخل المخيم وأسمعته كيف أزغرد، وقد ظل يضحك حتى اختفى عن أنظاري".

فأم سعد آمنت بالسلاح وعاتبت المتقاعسين، ودفعت ابنها في طريق الفداء، وهي تردد "إذ لم يذهب سعد، فمن سيذهب؟!"، إنها تستشعر مسؤولية وتنذر أبناءها للدفاع عن الوطن، إذ يلحق ابنها الصغير "سعيد" بالأشبال في المخيم، فهي تسكن غرفة مشطورة من النصف بحائط من التنك، هذه المرأة الكادحة الثائرة آمنت بالتغيير، ولكي يتحقق النصر فلا بدَّ من تحطيم القيود والتمرّد على نمط التفكير وأسلوب الحياة، ومن انتهاج نهج الحركة والتحرر والمقاومة المسلحة، وتثور على استغلال صاحب البناية الخواجا الجشع الذي يستغني عن خدمات عاملة النظافة السابقة لتوفير ليرتين.

هكذا صورة المرأة الكادحة، التي تعمل في خدمة الآخرين لتعيل أربعة من الأولاد ممثلة للطبقة المسحوقة في لبنان.

ب- المرأة الثوريَّة المثقفة 

 يقدم غسان في رواية "برقوق نيسان" أنموذجاً للمرأة المثقفة، التي انخرطت في العمل الفدائي الثوري، فشخصية سعاد الفتاة الجامعيَّة التي تعمل كحلقة وصل بين الفدائيين وأهلهم "فقد التحقت سعاد بالذراع الفلسطيني للحركة التي قد بنى تنظيماً فدائياً صغيراً أطلق عليها اسم (شباب الثأر)، وكلفت بالاتصال في نابلس إبان عطلتها الصيفيّة وبناء خليّة فيها، إلا أن الحرب فاجأتها فقررت البقاء والعمل حتى أوصلتها الى مرتبة قيادية في نابلس". 

 أما في قصة "شيء لا يذهب" يقدم" ليلى" الفتاة الفلسطينية المتعلّمة من حيفا، صاحبة حس مرهف وذوق شعري، تحب رباعيات الخيام والحياة و"خيري"، ولكنها تحب حيفا أكثر، وتعتنق قضية الدفاع عنها بشجاعة عجز عن بلوغها "خيري"، وعندما هاجمت قطعان اليهود حيفا، فانطلق أهلها يدافعون عنها رجالاً ونساءً، كانت ليلى "لم أكن أعلم أن تلك الفتاة الناعمة كانت تقوم بعمليات نسف، يعجز تصورها رجال متوسط الشجاعة"، وتعتقل ليلى، وتخرج من السجن، وقد مات في داخلها كل معنى للحياة، إذ قالت لي بصوت منخفض هادئ: لقد ضاجعوني طوال تسعة أيام". تتخلى ليلى عن الحب والحبيب، وتبقى متمسكة بحيفا الحب الأرسخ والأكبر. 

وفي قصة "إلى أن تعود"، المرأة التي أغفل اسمها الراوي، لا تتشبّث بالأرض وحدها بل تدفع زوجها ليراجع حساباته، ويعود عن فكرة الرحيل "دنا إلى زوجته وألف نفسه مشدوداً إلى دمعة كبيرة في عينيها الواسعتين، كأنّما هي ذوب حنين، كان يريد أن يقاوم، لكنّه رأى نفسه محاطاً بالتساؤلات التي غرستها دمعة زوجة في عروقه الزرقاء. وأرضك؟ أليس من الأفضل أن تعيد إلى التراب عطاءه لحماً ودماً؟".

 وإذا كانت البطلة في قصة "شيء لا يذهب" أرادت أن تقدم حياتها، فإن الزوجة هنا قدمتها "في تلك شنق اليهود زوجته على الشجرة العجوز بين الساحة والجبل، إنه يراها مدلاة عارية تماماً".

قدم الروائي غسان كنفاني مثالاً عن كفاح المرأة الفلسطينية ونضالها بعيداً عن أي فكر سياسي أو تعبئة أيديولوجية، إذ جاءت هذه المرأة من عمق "صحراء النقب" لا قائد لها سوى حب الوطن والشعور بالانتماء للأرض. 


المرأة التقليديَّة 

 هي المرأة المتصالحة مع واقعها، القانعة بكل ما يؤول إليه الحال، وفي أغلب الأحوال لا تكون ذات تحصيل علمي مرتفع، وقد تكون أميَّة. 

وتميز الباحثة الغصين بين أنموذجين، الأول التقليدي السلبي، والتقليدي الإيجابي.

أ-المرأة الإيجابيَّة:

 هي التي تعي الحياة بصورة مبسطة، وتقف عوناً وسنداً لمن حولها، وتغالب صعوبات العيش من أجل البقاء وإثبات الوجود بطريقة شريفة وعقلانيّة كما في رواية "رجال في الشمس" يقدم بعض الشخصيات النسائيّة مثل شخصية "أم قيس" التي تخاطب زوجها "سيكون بوسعنا أن نعلم قيساً؟، وقد نشتري عرق زيتون أو اثنتين"، وفي رواية "عائدة إلى حيفا" نجد صفية. 

ويعرض لامرأة تقليدية أخرى في قصة "أبو الحسن يقوّص على سيارة انكليزية "هي أم الحسن أنموذج للمرأة القروية التي تبدع الحياة الريفيّة وتكسبها جمالها وعطاءها وحيويتها، فهي رديف زوجها "تصحو قبله، تعد الفطور وتغلي الشاي، ثم تخرج فتشتغل في رقعة الأرض الصغيرة الملحقة بالدار، وتعود فترتب البيت وتكنسه، وتبدأ بطهو الطعام". 

هذه صور لنساء تقليديات، لكنهن على قدر طيب من الإيجابيّة والمشاركة والبناء.

ب- المرأة السلبيَّة 

تحيا أسيرة الوهم والجهل، لا تحسن التصرّف ولا تجيد أداء دورها في الحياة بصورة سلميَّة، بل لعلها تكون مصدر شقاء لمن حولها، ولا تمتلك القدرة على تصويب خطئها، ومن أبرز الشخصيات النسائيّة السلبيّة نجدها في رواية "الأعمى والأطرش" "لقد حجت أمي، حين كنت لا أعرف إلى أين تحملني وتمضي، إلى قبور كل الأولياء الصالحين المزروعة في كل حي وعلى درب كل قرية، وسكبوا هناك على عيني من الزيت والدعاء ما يذوب جبلاً من الصمت والعناد".

 فأمه هنا تؤمن بالأولياء ومعجزاتهم، فتأخذ طفلها الأعمى من ضريح إلى آخر، أملاً في اجتراح المعجزات وعادة ما "ترتبط الأضرحة وقببها في المخيال الشعبي بالبركة والقداسة والكرامة".

المرأة السلبية الأخرى التي يقدمها كنفاني "فهي زينة في الرواية نفسها، "أرملة مشحرة مات زوجها تحت حمولة شاحنة حصى، حين أفرغها السائق فوقه من دون أن ينتبه، عندها أربعة أولاد" والوكالة شطبت اسمين من أسماء أبنائها.  هي امرأة منكسرة ضعيفة عاجزة عن تلبية حاجة أبنائها، واستسلمت لمساومة الموظف ليعيد لها الإعاشة التي قطعت عنها.


المرأة الحبيبة 

 تصف الباحثة الغصين أن المرأة عند غسان كنفاني لم تكن مقاومة وأماً مناضلة فحسب، بل كانت محبة حالمة تعيش حياة الحب وتعاني الغيرة، وتلوذ بالدلال، وكانت محبوبة تمنح محبها أملاً وحباً وألماً.

في قصة "في جنازتي" السارد يحكى قصة حبه عبر العودة بالذاكرة من خلال خاطرة يحادث فيها حبيبته، يستذكر لقاءها الأول "حين التقت عيوني بعيونك أحسست بمعول ينقض في صدري فيهدم كل المرارة التي اجترعها طول طفولتي"، لكن صراع العاشقين يتفجّر عندما يكون لدى الحبيبة "رجلاً آخر، فترحل وتتركه ليكتب" وبدت لي حياتي صدفة فارغة لم يكن لها أي معنى".

أما في قصة "الأرجوحة"، فيقدم الراحل غسان شخصيتين، كلاهما امرأة محبة والحبيب واحد، وفي قصة "شيء لا يذهب" ذكرنا المحبة ليلى، التي تقول "آه أيها الحب. لو أستطيع أنا وأنت أن نتفق مع القدر، كي ندمّر هذا الطابع الوحيد للعالم، إلى قطع صغيرة صغيرة، ثم نعيد بناءه من جديد كما تشتهي قلوبنا".


المرأة البغي  

تذكر الباحثة الغصين أن الراحل غسان يعرض للمرأة البغي في قصصه القصيرة، أما في الرواية فلا أثر لها، ومن أبرز الشخصيات صورة المرأة البغي هي "سميرة" في قصة "القط" من خلال نظرة شخصية البطل الذي يراها في هذه الدنيا "هي الشيء الوحيد المحدد الذي يعرف المرء أين ينتهي.. متى يستطيع أن يفهم هؤلاء النمل أن سميرة هي الحقيقة؟".

يركز غسان اهتمامه على شخصية البطل على خلاف قصة "علبة زجاج واحدة" الذي يدخل السارد عالم البغايا، فيلتقيهن "طلين وجوههن بمساحيق شيطانية، وانتزعن ملابسهن إلا أقلها، فبدون من عالم آخر: بشعات، مترهلات، قذرات، يتدفقن بالشتائم والعهر".

لا يربط القاص كنفاني في قصصه هذه بين الفرد الفلسطيني ومعاناته وبين الحالة الإنسانية التي يعاني ويقاسي منها الإنسان، والتي يمكن وجودها حوله في كل مكان.


المرأة اليهوديَّة:

أ‌- المرأة المدنيَّة 

 يفرق المبدع كنفاني بين المرأة اليهوديّة المسلّحة "المجنّدة"، والمرأة اليهوديّة التي لا تحمل السلاح، كاشفاً عن توازن فكري عاطفي تجاه قضيته وعدوه، فعندما تحدث في "رواية عائدة إلى حيفا" عن مريام تلك المرأة اليهوديّة القادمة من بولونيا على متن زورق بريطاني، فإنه لا يفقدها إنسانيتها، بل يكشف جوانبها، ويتحسس وجعها كإنسانة (كانت مريام قد فقدت والدها في " اوشفيتز" قبل ذلك بثماني سنوات، حين داهموا المنزل الذي كانت تعيش فيه مع زوجها ولم تكن فيه، التجأت إلى جيران كانوا يسكنون فوق منزلها، ولم يجد الجنود الألمان أحداً)، إلا أنهم في طريق نزولهم على السلم صادفوا أخاها الصغير قادماً إليها، وقد استطاعت أن ترى إطلاق الرصاص عليه.

ويوضح إنسانيتها عندما رأت شابين من الهاغاناه يلقيان طفلاً عربياً من شاحنة "كأنّه حطبه"، حيث ارتدَّ الوجع إلى قلبها.

 فضلا عن شخصية (" ثورا زونشتاين" المرأة التي كانت تسكن مع ابنها الصغير بعد أن طلقها زوجها في الطابق الثالث، بالضبط فوق بيت سعيد) التي كانت سببا في إنقاذ خلدون والتي كان جارها في الخليصة.

وبهذا تتكامل الفكرة التي أراد غسان إيصالها، وهي وجود فرق بين اليهود المدنيين واليهود المقاتلين.

ب‌- المرأة المجندة  

في قصة "ورقة من الرملة" نرى وجهاً آخر للمرآة اليهوديّة، نراها بعين السارد في طفولته "ساعة رأيت مجنّدة يهوديّة، تعبث ضاحكة بلحية عمي أبو عثمان"، الذي أخرجوه اليهود مع أهل قريته (الذي كان واقفاً يضم إلى جنبه ابنته الأخيرة فاطمة، صغيرة سمراء، "... "وببساطة شديدة رفعت اليهوديَّة مدفعها الصغير وصوبته إلى رأس فاطمة)، لقد قامت المجندة بقتل الطفلة فاطمة أمام عين أمها وأبيها. 

وفي قصة "كان يوم ذاك طفلاً" نرى مجندة أخرى "من وراء سيارة صغيرة برزت  صبية تلبس سروالاً قصيراً وتعلق على كتفها رشاشاً"، إنها أحد عناصر عصابة يهوديّة، تعترض طريق حافلة مدنية، وتنزل ركابها نساءً وأطفالاً ورجلاً، ليكونوا حصة هذه المجنّدة اليهوديّة "هذه حصتك اليوم، سقط في الخندق، وغرقت وجوههم وأكفهم الوحل". فقد قامت هذه المرأة المجندة اليهودية، بقتل ركاب الحافلة جميعاً، عدا طفل صغير ترك ليروي ما حدث، فينثر الخوف في نفوس الأهالي، فالمرأة اليهوديّة هنا مجرمة تمتهن القتل بدم بارد.

تصف الباحثة لبنى عبد العزيز الغصين نظرة غسان كنفاني للمرأة أنها تحرريَّة، فهو يُعلي من شأنها، ودورها في الحياة، وحالتي السلم والحرب، وابتعد عن الوصف الحسّي للمرأة حيث انطوت كتاباته على احترام المرأة، وربما قدمها على الرجل كما في قصة "شيء لا يذهب". 

أخيراً قدم المبدع كنفاني المرأة الفلسطينيّة بنت الحياة الفلسطينيّة المتنوّعة والغنية المتعددة التي وجدت بها ذاتها في أي موقع كانت به، متجاوزاً النظرة التقليديّة التنميطيّة التي قدمها العديد من الكتاب.