حسب الله يحيى
لم أكن على علاقة طيبة مع أبي، كنتُ دائم الشكِّ في تماديه وسوء ظنّه إزاء رجل وقور، كان يملك فرناً للصمون قريباً من دكان أبي.
لم يكن أبي يُسيءُ الظنَّ بأحد، ولم أعرف عنه كراهيته لأحد، ولم تكن عينه على رزق أحد.
أعرفه طيب القلب، صادقاً، مضحياً، يتمنى الخير للناس جميعاً..
غير أنّه، خرج عن طباعه وخصاله التي عرف بها.. هذه المرة استثناءً من كلِّ الصفحات المشرقة التي عرفتها عن أبي.
كان يمارسُ دورَ المراقب والمتابع والراصد للرجل الوقور الذي يتحلّى بمظهر حسن وسلوك قوامه التقوى والخصال الحميدة.
كان كلُّ من حول الرجل الوقور، يجلّونه ويستشيرونه، ويحملون كلماته على محمل الجد والاحترام.. إلا أبي!
يسلّم الرجل الوقور على أبي.. وأبي لا يرد السلام.
تكرّر السلام، وتكرر الجفاء، تكرّر الاحترام، وتكرّر الاحتقار، تكرّر شراء الصمون، وتكرّر شراء السجائر والمشروبات الغازيَّة من دكان أبي..
أبي لم يحفل بهذا التعامل، وإنما كان يذهب باتجاه المقاطعة، لكنه كتمها في داخله، ولم يحدث أحداً بهذا الجفاء.. ولم يقدم لي سبباً لكراهيته تلك، سوى عبارته التي يكررها: "ستكشف لك الأيام حقيقة هذا الدجّال".
كان الرجل الوقور، يجلس على كرسي أمام فرنه، يراقب العمل والزبائن وحركة الشارع فيما ينزوي أبي في زاوية من دكانه، يراقب كل حركة وكل نظرة وكل كلمة ينطق بها الرجل الوقور بملابسه المكوية ولحيته الأنيقة وأصابعه التي
لا تفارقها السبحة والدعاء والاستغفار.
لم أجد من الرجل ما يثير الاستغراب.. كان سلوكه حسناً، وترحيبه بالآخرين وابتسامته المشرقة للمارة وللزبائن ولعمال الفرن.
لذلك، كنتُ على خلاف دائم مع ابي إزاء موقفه الخشن وكراهيته التي لا حدود لها نحو رجل كل ما فيه يوحي بالسلام والاطمئنان والمحبة.
لم يلزمني أبي على كراهية الرجل، فالأمر يعود إلى قناعاتي لا قناعاته..
إلا أنّه ظلَّ يكرّر أمامي عبارته: "ستكشف لك الأيام حقيقة هذا الدجال".
كنتُ أعود من مدرستي بعد الظهر، لأجد أبي يترصّد الرجل الوقور بنظراته، فيما الرجل منشغل بالناس الذين حوله، وهم يستمدّون منه النصيحة والحكمة والطبع المتواضع السليم.
وحين ألححت على أبي في اعطائي سبباً واحداً لكراهية هذا الرجل، استجاب وحدثني عن سيدة، تقول حكايتها، إنها كانت امرأة حميدة، عفيفة، وذات مرة، طلبت من زوجها قطع شجرة التوت في حديقة المنزل، لأنَّ العصافير كانت تتلصص من بين الاغصان ونظر إليها.. وهذا ما لا ترضاه لنفسها ولا يرضاه زوج شريف لزوجته.
استجاب الزوج وقطع شجرة التوت التي كانت رمزاً في الحي كله، وثمارها ذاق منها الجميع بلذة.
إلا أن الزوج المغفل، والذي وضع ثقته الكليَّة بزوجته، فوجئ ذات مساء برجل غريب يغادر غرفة نومه، والزوجة غافلة بعريها عن وجود زوجها...!
سألت أبي: ما علاقة هذه الحكاية الشعبيَّة والمتعلقة بامرأة فاسدة، بهذا الرجل الوقور؟
أجابني: "ستكشف لك الأيام.."
وبعد أيّام من تلك الحكاية، فوجئت بأبي.. وأنا عائدٌ من المدرسة.. بأن الغضب قد أخذ مداه من طبع أبي، ووجدته يمسك بمبلغ نقدي معدني ويلقي به في الفضاء.. وهو يصيح بوجه الرجل
الوقور:
- لقد أعطيتني ثمن علبة السجائر، ولم أتسلم منك خمسة دنانير كما تدّعي.. وتريد أن أعيد لك الباقي.. خذ هذا هو الباقي وألقى بعدد من العملات في الفضاء.. ليأخذها من يأخذها.. لستُ بخيلاً ولا آكل مال الحرام.. ولكنك كاذب.
كانت كلمة (كاذب) صعبة.. صعبة أن تلقى في وجه رجل وقور، ابتسم بوجه أبي وذهب إلى مكانه.. يسبح بحمد ربّه وهو يجلس على كرسي صُنِعَ من جذع نخلة.. فيما الناس ينظرون إلى ابي بعيون الشك والريبة والعدوان والسفاهة.
كنت أودُّ الذهاب إلى الرجل الوقور.. لأعتذر منه على ما بدر من أبي، وأنه قد يكون ناسياً، والنسيان من طبع الشيخوخة..
إلا أنّني خشيتُ من جفاء ابي، وخروجي عن طاعته.. فآثرت الصمت.
عند العصر، وأجواء الخريف، تنكسر فيها الحرارة، ويخلد الناس إلى النوم، فيما عمال الفرن ينصرفون إلى بيوتهم، ليعودوا إلى العمل قبل حلول المساء.. ولا يبقى في الفرن إلا صاحبه وحارسه الأمين.
في تلك الساعة الساخنة والهادئة، فوجئت وأبي بصوت صراخ طفل لا يتجاوز عمره العاشرة.. فيما كان الرجل الوقور يمسك به ويحاول كتمان صوته.. كانت ملابس الرجل بالكاد تستقر على جسمه والارتباك بادٍ على سيماء وجهه..
تجمّع الناس، وفوجئوا بما حدث..
كانوا بين مصدق ومكذب، لكن المشهد كان واضحاً، وفي الحال كان الخبرُ قد شاع كما النار في الهشيم.
والد الطفل يصرخ، والشرطة التي حضرت إلى المكان تهدئ الموقف، والرجل الوقور.. قد ذهب عنه وقاره وانفرطت حبّات سبحته.
هنا.. وجدت أبي يبحث عنّي بين كل هذه الزحمة.. وحين وجدني، ابتسم وقال: "ها.. هو اليوم الذي كشف أمامك".
ومضى يقول:
- تلك المرأة في الحكاية الشعبيّة، لا تختلف عن هذا (الرجل الوقور).. كانت تبالغ في تقواها وورعها وشرفها.. حتى كشفت حقيقتها.. وهذا الدّعي الكاذب في مبالغته التقوى والايمان والوقار، كان يتستر على الفساد الذي في داخله..
- أرأيت.. أتذكرت كيف ادّعى انه قد اعطاني خمسة دنانير، ولم أعد له الباقي من ثمن السجائر؟
سألت أبي:
- من أين جاء الشك عندك، والرجل ليس مثار شك من أحد؟
ضحك أبي كما لم يضحك من قبل.. بدا أمامي منتصراً، معتداً بحكمته وتواضعه وصدقه قال بحكمة:
- تعلّم، تعلّم.. المبالغة في الشيء، كالنقص فيه.. كلاهما مذمومان خاطئان، يقودان أصحابهما إلى الفشل، وإلى الحقيقة..
كانت مبالغة الرجل الوقور كما كنت تسميه، في مظهره وفي إفراطه في التقوى والورع والاستقامة، وقد علمتني الحياة أن أشك في صاحبها.. كنت أمتحن شكّي يا بني.. وقد أفلحت.