ميثم الخزرجي
من الشروط المهمّة التي تولاها افلاطون في أكاديميته هو أن يكون الدارس متخصصاً في الهندسة، ولعلّي أجد أنّ الهندسة بطبيعتها الرياضياتيّة ومنهجها الاستقرائي من غير الممكن أن تقبل البيّنة أو الحجة ذات الطابع الموهوم الذي يحتمل أكثر من صورة حل، فهي تعبير منطقي له قوانينه التي لا تتماهى في بيان الصح من الخطأ، لكنّي أتساءل، ما علاقة السؤال الإشكالي الذي له مراتبه بين ذهنيّة وأخرى تبعاً للتأمل والهدنة المرتدة لمجريات الوعي للكائن البشري وبين الحقائق التي تقدمها الرياضيات؟
وكيف يكون التعاطي مع المخرجات الفعليَّة لسياق السؤال الاشكالي حيال مجاهيل الدوال والتعابير المنطقيَّة التي لا تتلاءم أو تتفق مع الشك في طريقة تصدير نتائجها؟، ما أعنيه، هل أن الفلسفة تخطُّ مساراً للوصول إلى الحقيقة أم أنها تهبك حقيقة محضة كما تفعل الرياضيات؟، وإن كانت كذلك، لماذا هذا الاختلاف ما بين المدارس المعرفيَّة منذ طاليس إلى يومنا هذا؟، كيف ننشئ علاقة بين الحقائق في الرياضيات وبين الصراع القيمي الديالكتيكي؟، هل أن قيم المتغيرات في الرياضيات تقابل استنباط الأجوبة الإشكالية، أم أنها سمة ذهنيّة في عموميتها؟ لماذا نرجّح الخيار العقلاني في حال لو التزم الأمر واحتكم إلينا القرار؟ هل أن العقل الأداة التي تشترك بين الفلسفة والرياضيات؟ وهل أن الإنسان الحالي ابن هذا الأوان التقني يتوقف عند الابتكارات الذهنيّة العظيمة أم يتخذها كوسيلة للوصول إلى غايته؟ وهل يتعاطى مع ماهيتها القيميَّة أم ثمة استلاب جوهري حيال أي تقدم تكنومعرفي؟ هل أن العقل لا يتعدى من كونه خزانة تُدّخر بها صورة الواقع، وما هذه الأفعال التي يؤديها الكائن البشري ليس أكثر من عادةٍ استحوذت على جوّانيته لتصبح سياقاً يلتزم به على مدار الوقت إزاء أي فعل حياتي يقوم به بحسب تعبير الفلاسفة التجريبيين؟ هل أن النكوص الذي يعاني منه الإنسان ناجم من انحسار دور العقل؟ إذن ما هو الدور الذي تقدمه الفلسفة حيال هذا التراجع الفكري على الرغم من التقدم التكنولوجي الذي لعب دوراً فاعلاً في هذا العالم من حيث التواصل والدراسة عن بعد فضلاً عن الضرورات التي تعنى بصحة الإنسان؟ هل ثمة عوز معرفي ناتج عن تغييب دور العقل؟ لماذا نخشى من السؤال الذهني الذي يتمحور حول مآل الجنس البشري بينما نجد العلم في تصاعد مهول؟ هل هناك مراتب علميَّة متسلسلة حيال هذا التصاعد؟ ما الذي تريده الفلسفة من كُنه الإنسان واعتبارية وجوده؟
واقعا أن السؤال الإشكالي وتجلياته المعرفية يسير باتجاه واحد مع العلم من ناحية المفهوم والرؤية كونهما يتخذان من العقل المعيار الأسمى والدالة التي عن طريقها يعيّن تصويب الأجوبة، وقد بدا ذلك واضحا في أغلب المباحث الجدلية التي وصلتنا فضلا عن الابتكارات التقنية المتقدمة. وهذا الأمر أجده تطورا طبيعيا للوعي الإنساني ونظامه الثقافي الذي يهيئ المجتمع ويكوّن صورة جلية لمنسوبه المعرفي، وهنا يلاحظ، أن ثمة مراحل مهمة للتطور العلمي والتكنولوجي المعني بتقدم الشعوب وهذا الحال يُرجّح إلى الحراك المعرفي والفلسفي الذي تجاوز المفاهيم التي تعيق التثوير الفكري للشعوب أو التي تعرقل بيان المخبوء منها، لذا ان الاعتبار العلمي جاء مؤاتياً بل أجده متفقاً لتكوين بنية الإنسان ابستمولوجياً، ويرجع السبب إلى أن الفلسفة تحتاج إلى مساحة حرة غير مقيدة بعقبات لاهوتية أو سياسية متوارثة، كذلك العلم لا يستفتي الغيبيات أو يشاور المدوّنة التاريخية في تحديد مقرراته، بل يسير بخطى تستقرئ الأثر الناجم عبر هذه الابتكارات أو الاختراعات على المنظومة المجتمعيّة ومدى تأثيرها على وعي الكائن البشري وتقدمه، وقد يُحيلنا هذا إلى سؤال أجده ملائما حيال الجدل الذي نحن بصدده، هل أن البلدان التي اجتازت خطوات عظيمة في المجال العلمي، تعافتْ من الأسئلة الإشكالية التي عنيت بتكوين الإنسان ونشأته المعرفيَّة؟ وهل ما زالت متوقدة إزاء المباحث التي تتوالد من حيثيات الواقع وما ينتج عنه من مفاهيم أخرى تبتكر أنظمة جديدة للحياة ومشواره المؤثث بالكثير من الظواهر التي استجلت انساق المجتمعات واعتباراتها القيمية. إنَّ المباحث المعرفيّة تقدمتْ بشكل ملفت وأصبحت تتعاطى مع الهامش لتؤسس منظومة ديالكتيكية تسترعي مجريات الطقس الحالي وتحاور تفاصيله، فقد استطاعت أن تكوّن عبر مدارسها الفلسفيّة منذ المشّائيَّة وما تفرّع منها مرورا إلى التجريبية والعقلانية وفلاسفة عصر التنوير بأن تستعرض الطرح الذي تقدمه هذه المدارس لتنطلق عبار فضاء معرفي جاد لا يعاني من عوز من حيث الرؤية والتنظير والمصطلح، ولهذا تجاوزت أغلب الاستفهامات المكوّنة لصيرورة الإنسان ومآلاته المهمة، ومما لا شك فيه أن هذا التجاوز الجدلي أصبح متسقا مع الحراك العلمي الذي شكّل وحدة معرفية علمية مهمة، لذا نجد أن كثيرا من المفاهيم الجديدة اصبحت تمثل منهجا مهما متمثلة ببنية الواقع وهذا ما نلاحظه بصورة واضحة عبر أغلب النتاج السيسيولوجي والثقافي الذي وصلنا مثل كتاب "نظام التفاهة"، الذي نظر في عموم الزوايا التي تسوّق أو تسلع لمفاهيم هشة لتصبح وحدة متكاملة تكون جزءا من منظومة المجتمع القيمية من حيث السلع الرديئة والمفردات البذيئة والسطحية الى الفنون الهابطة بل حتى الموضات الغريبة والسلوكيات غير المتوائمة مشكلة بذلك سياقا عاما لها، فيكون هذا الجانب استقرائي لكثير من التفاصيل التي تعنى بتربية الكائن البشري، وقد أجد أن هناك قفزات معرفية هائلة تخطتها الحضارة الغربية بعد عصر النهضة وتمدّن مؤسساتها التربوية والتعليمية لتتعاطى مع الواقع من حيث السؤال الإشكالي بعيداً عن الأسوار التي رسمتها لها الكنيسة لتزيل الغطاء عن الكثير من المحرّمات الغيبيّة، لذا فإنها تعدّت محاذير الأساطير والميثولوجيات وأصبحت تحلّل السؤال وتفكك محتواه طمعاً للوصول إلى الغاية المرجوة بعيداً عن سيطرة الكاهن وأحكامه التي ترسم المسار للجنس البشري.