عن الكتابة ومراحل صناعة النصّ
جاكلين سلام
"لا أستطيع أن أفهم الكُتّاب الذين يشعرون بأنَّ عليهم ألا ينجزوا متطلبات الحياة العادية، لأنني أعتقد من الضروري للفرد أن يكون على تواصل. تلك الأفعال البسيطة كأخذ فستان للغسيل أو معالجة الزريعة المريضة بالمبيدات الحشريّة، مسألة عقلانيّة والقيام بها جميل. إنّها تصلك وتعيد العالم إليك أيضا" نادين غوديمر، حائزة على جائزة نوبل للآداب.
صوتُ المبدع وبصمتُهُ الفنيَّة
حين قدمتُ إلى كندا رحت أتابع بمتعة جلسات الحوار مع الأدباء في الساحة الكنديَّة، وتعمّقتُ بالقراءات في كتب في هذا الحقل في الأدب الانكليزي وهي غزيرة وبعضها مفيد. في آخر مهرجان أدبي حضرته خريف هذا العام كانت هناك جلسة حوار مع كبار كتاب من العالم، كندا، الهند، ايرلندا وانكلترا، عنوان الجلسة: لماذا نكتب. وكان على كل كرسي، دفتر وقلم كي يشارك من يرغب من الحضور في الكتابة لدقائق مع هؤلاء الكتاب. سألت نفسي: ما الذي يميز صوتي عن صوت هذه الشابة التي تجلس جواري أو الرجل المسنّ الذي في آخر مقعد من هذه الحلقة الأدبيّة، أو تلك التي تقرأ مقالتي الآن في أقصى الشرق؟
من أين ينبع صوتك وإيقاع كتابك الخلّاق؟
الصوت الأدبي هو تلك البصمة الخاصة لملامح الكتابة وتتبلور عبر الممارسة الإبداعية والأصالة، ولهذا لا بدَّ من المساحة الحرة للعبور بمراحل الكتابة منذ دفقتها الأولى ولحين وصولها إلى القارئ الذي يتقاطع محموله الفكري مع ذلك الإيقاع الجوّاني الذي يحمل الذبذبات الصوتيَّة الآتية من قلب الحكاية. ويبقى هناك مجهولاً يختبئ في طيات الكلمات. ذلك النقصان أيضاً باب لتذوق الكتاب كنزهة فكريّة وروحيّة تتحدّانا أحيانا وتقلب منظومة أفكارنا المترسّبة الآسنة.
النصُّ يختمرُ ويولدُ على مراحل
الفن يحتاج إلى صنعة فنيّة ومهارة واشتغال على النصّ كي يصبح نسيجاً فنيّاً جميلاً، أو ركلة في خاصرة العالم القميء المترع بالظلم والعدوانيّة. وليس من مهام النصّ أن يكون رومنسياً فقط. يمكن للنص أن يحمل كلّ حواسه لينتقد العالم بطريقة فنيّة الهدف منها خلق ركن إنساني لعشّاق الحياة الباحثين عن المتعة والمعرفة.
المراحل التي تسبق اكتمال النصّ، ستفعل فعلها وتترك الأثر وتحرّض على متعة فكريّة وشعوريّة يتميّز بها الإنسان والمبدع الذي يحلم أن يكون فوق المستوى الباهت، إذ لا أحد يذهب للكتابة كي يبقى فاشلاً ومن دون قيمة إضافية. ولكي يكون الكتاب المنتج قريباً من روح المتلقي يجب أن تكون له مقومات وحواس روئ، إذ المعرفة متعة تحتاج مهارات فنيّة.
قتل الآباء في حقل الأدب بجرعة زائدة من غرور الأبناء
نحن نكتب لأسباب مختلفة ليس أولها الموهبة وملكة التعبير والتخيّل بلغة أدبية مغايرة لنشرات الأخبار والحكواتي، وليس آخرها المشاركة في صناعة الجمال وتعميمه من خلال الرسالة الأدبية والفنية التي يختارها كل حسب توجهه النفسي وموهبته ومقدرته على التأثير في الآخرين من خلال الرسالة التي تتبلور عبر الصيغة والأسلوب والمعنى. لا يستيقظ الفرد يوما ثم يصير كاتبا او شاعرة او صحفيا. التراكم المعرفي والخبرة في استخدام أدوات هذه الحقول وتقديمها الى القرّاء بمهارة هو الذي يخلق الابداع ويجعل صاحبه في مقام المبدعين. ولا يوجد مدرسة لتعليم الشعر والقصة والرواية ولكن يوجد أدوات وأفكار تقود بالنتيجة الى منتج مميز. توجد ورشات عمل وقد تفيد وقد لا تفيد وذلك يعتمد على موهبة الفرد الذي يتلقى هذا العلوم أو الإرشادات. نحن نكتشف أصواتنا الخاصة من خلال التجربة والممارسة، نقلق ونجهل أحياناً أهمية ما نكتب لأننا لا نعرف مدى أهمية وخصوصية هذا الصوت عند المتلقي، ونخشى الصدى الإيجابي والسلبي الذي قد يتركه عند الآخر. نقاء الصوت الإبداعي وتفرده المطلق نادر الحدوث لأن التأثر بالقراءات والكتابات يحدث من دون أن ننتبه. وهؤلاء الذين يقولون: قتلت آبائي، ربما بجرعة زائدة من الغرور وجنون العظمة الذي يزين لك اعتقادك النجاة من سطوة الكتابات المتحققة والتي عبرت لا وعينا وأثرت به.
الكتابة كما القراءة رحلة في مجاهيل وينابيع تبدو مستترة ولكنها ليست عصية على الكشف والفهم والتطويع للوصول إلى كتابة تأخذنا إلى العمق وتصبح نافذة لتراني وأراك من خلالها حيث يتبدّى اللا مرئي والمضمر بجمال فني هو الأسلوب واللغة والصوت. ولكن لماذا نكتب نصوصا وقصصا عاجزة عن جذب اهتمام القراء ومحاكاتهم على اختلاف توجهاتهم وطبقات معرفتهم؟
الكتابة والحسيَّة وانزياح الخيال
عن قيود الواقع
الكتابة وحسيّتها تشغل مساحة من نجاح الكتابة أو ما نسميه وصولها إلى الآخر، وأثرها على المتلقي أو قصورها. هذه العلاقة الشائكة لها إحداثيات غير معلنة بوضوح ولكنها تسمح تصل بطريقتها المباغتة والماكرة التسلل إلى الروح عبر تلك المساحة التي يتحقق فيها الأثر بين ما هو مكتوب بشخصية وشخصانية نابعة من وعي الكاتب ولا وعيه وتجربته، فتصل إلى المتلقي وكأنها تحاكيه وتعكس روح حقبة كاملة من الألم والأمل. القصة والرواية والقصائد هي الصيغة الأدبية التي يلجأ إليها الكاتب ليحقق صوته الخاص، بأسلوبه وأفكاره وإيقاع مفرداته ومجازاتها. حتى الفانتازيا بنت عقل وخيال الكاتب وليست صناعة الآلات الذكية والروبوت .
مصير الكتب بعد النشر والعرض في السوق
السوق كلمة جائرة تخدش ثراء الأدب لكنها ساحة تصدير كل هذه الإبداعات. ولكن لنقل أن الأدب سلعة منتجة وبأدوات حسيَّة كما أسلفتُ، ولذلك المقبلون عليها نوعية خاصة من الناس، ولذلك لا بدَّ أن يتسابق الكتاب على طرح أجود ما لديهم من أفكار وبثوب يرشح زهواً وعبقاً وفتنة. ويا لها من صنعة شاقة ولذيذة وتتطلب حدّاً كبيراً من الحرية. فالكتابة بحرية إزاحة للموت وانحياز إلى عمق الأشياء لتبديد العتمة والمجاهيل المحيطة بأفكارنا المضمرة والمعلنة. ويبقى السؤال: متى يصل النص إلى اكتماله، وهل يكتمل؟
تلك مسألة تتعلق بحدس الكاتب ووجدانه اللصيق بالعمل. وهذا ينطبق على فن المقالات والمذكرات. كتبت الفيلسوفة والروائية الروسية الأصل، آين رند "كل ما عليك فعله أن تنظر أمامك وتستكشف الطريق وحين تراه لا تجلس وتنظر إليه. سرْ". وأختم بالقول، كل سيرى الطريق إلى صوته الخاص وعالمه بعين وشعور مغاير، فالنصوص طرقات نكتشفها بمواصلة العمل والعيش والتحرير وإلى أن نصل بها إلى عشّاقها أو مبغضيها. والصوت الأدبي يتحقق ويصبح خاصّاً كما خصوصيّة أصوات الفنانين الأصلاء في عالم الموسيقى والغناء. فالكتابة عمل ذهني فردي يكتسب صدقه وخصوصيته من تلك الشراكة بين التجربة الفرديّة والكونيّة وطريقة التعبير عنها أدبيّاً. إذا عليك أن تستمع باكتشاف الغابة والبحر كما بصنع الشاي وغسل الصحون ومسح الغبار عن النافذة، كي تشبع حواسك التي تتسرّب إلى الكتاب. وربما لذلك يحتاج أحياناً الروائي للسفر الى منطقة معينة كي يكتب عنها نبذة تاريخيّة في عمل متخيّل.
كتاب واحد يُغيّر الفرد أم قراءات لا تحصى...
في الجلسة الأدبيّة والحوار مع الكتاب التي أشرت اليها في بداية المقال، قال أحد منظمي الجلسة للحضور: اكتبوا لمدة خمسة دقائق عن كتاب غيّر حياتكم. مسكتُ القلم والدفتر الذي كان على الكرسي، تلمسّتُ الورق الأنيق والقلم الأبيض المطعّم بالبنفسج. لم يحضرني أن أكتب عن كتاب واحد، فكتبتُ لنفسي: ليس هناك كتاب واحد بعينه قلب حياتي وتفكيري، فأنا ما زلت اقرأ وأتغيّر وأتعلّم من الكتب العظيمة التي يكتبها الآخرون. توقفت عن الكتابة والتقطت صورة للمنهمكين في كتابة أفكارهم.
* شاعرة وكاتبة سورية تقيم في كندا