لَيْسَتْ كُلُّ قِراءةٍ قادرة على إيقاظ العقل
د. عبد الجبار الرفاعي
القارئ أصناف، صنف سيئ الفهم، لأنه يقرأ هذا النوع من الكتابة للمرة الأولى ولا يفهم لغة الكاتب، وصنف يكره النصّ الذي يقرأه بوصفه أنتجه كاتب ينتمي لدين ومعتقد وأيديولوجيا وهوية مختلفة عنه يمقتها، وقارئ يحبّ الكاتب ويعشقه فيحبّ كتاباته ويتفاعل معها، ونادرًا ما نرى قارئا محايدا. سوء الفهم لا ينجو منه القارئ المبتدئ غالبًا، وربما يتعرّض له القارئ المتمرّس عندما يقرأ بعض الكتب. لا ينشأ سوء فهم الكتب دائما من وعورة التعبير، أو التباس وإبهام الفكرة في ذهن الكاتب، بل ينشأ من غرابة الفكرة على خلفيات ذهن المتلقي ومسبقاته وأفق انتظاره.
سوء فهم الفلسفة الحديثة لدى الإسلاميين، في قراءة مؤلفات كانط، وهيغل، ونيتشه، وهايدغر، وأمثالهم، نشأ من كون مقولاتها ومصطلحاتها غريبة على دارسي علم الكلام وفلسفة فلاسفة الإسلام، ممن تشبّعوا بمنطق أرسطو ومقولاته، وآراء الفلاسفة اليونانيين وفلاسفة مدرسة الإسكندرية. سوءُ الفهم أحيانًا نافذة تقود للتأويل إن كان القارئ ذكيًا، ربما ينتج سوءُ الفهم أسئلةً متنوعة تثري المعرفة وتتوالد منها أسئلة عميقة، سوءُ فهم بعض آراء الفلاسفة اليونانيين ومصطلحاتهم وآراء فلاسفة مدرسة الإسكندرية لاحقًا، كان له أثر ملموس في إثراء الأسئلة والمناقشات لدى بعض الفلاسفة المسلمين.
كقارئ أحاول قدر طاقتي أن أكون محايدًا في القراءة، أتلذذ بكلِّ كتابة ثمينة أتعلّم منها، أو تثير في ذهني أسئلة جديدة، أو تدعوني لإعادة النظر بواحدة من قناعاتي، وتقوّض شيئًا من وثوقياتي. يكتشف القارئ الخبير أحيانًا أن كتابًا ينقله إلى أفق بديل لم يألفه في كتابات مماثِلة طالعها من قبل، ويضعه في مواجهة أسئلة منسية ومجهولة، ورؤى مختلفة، تجعله يُسائل قناعاته حيال التراث والواقع ويعيد النظر بجزمياته، إن قرأ هذا الكتاب على مهل وبتأمل. القراءة في حياتي أجمل الأسفار في عوالم المعنى، أنا قارئ وطالب علم ما دمت حيًا، عندما أكتب في أيّ موضوع أقرأ كلَّ ما يتوفر لدي حوله. أول كتاب يطالعه القارئ، إن تفاعل مع كلماته وتأثر بها، ترتسم هذه الكلمات في ذهنه، وتستفيق في ذاكرته كلّما تطلب استحضارها، كأنّه الحبّ الأول الذي لن تمحوه ذاكرة الأيام مهما تقادمت.
فرضتْ عليَّ طبيعةُ شخصيتي ومطالعاتي المزمنة، وتكويني التربوي وتعليمي الديني والفلسفي، أن أكون في سفر عقلي لا سكون فيه، وغالبًا لم يكرّر هذا السفر محطاتِه. لعل محطة اليوم غير محطة أمس، وربما لا ألبث في هذه المحطة للغد. الثابت الوحيد لديَّ هو السفر الأبدي، والقيم الروحيّة والأخلاقيّة والجماليّة الملهِمة لحياتي الإيمانيّة وضميري الأخلاقي، ومقدرتي على تذوق تجليات الجمال المتنوعة في العالم. كأنّي أنصت أحيانًا في النصّ لعزف يبوح بلوعة وجروح قلب عاشقة أقصتها الأيام عن معشوقها، وهي ترسم ما خطّه قلبها بكلمات تنزف مختنقة. عندما تتوطن صورة المعشوق قلب العاشقة يعزف القلب ألحان كلماته بأوتار منقوعة بالدم. مما أعطتني قراءة الكتاب أنها أضافت لحياتي حياة أخرى، ولتجربتي تجارب أخرى، ولجروحي جروحا أخرى، ولأحزاني أحزانًا أخرى، ولأفراحي أفراحًا أخرى، ولفهمي لنفسي فهمًا أعمق، ولتفسيري لشخصية الإنسان تفسيرًا أدق، ولاكتشاف العالم الذي أعيش فيه اكتشافات أوضح، ولما أعرفه عن الواقع معرفة حرّرتني من أوهام كثيرة وأحلام رومانسيّة، وأعادتني إلى الواقع المعيش.
تنامى عدد القراء في وسائل التواصل والتطبيقات الجديدة بشكل هائل، لم تعد القراءة تستأثر بها طبقة مميزة، صار كلُّ مَن يدخل على "تويتر أو الفيس بك أو الانستغرام" وغيرها قارئًا. شخصيًا أنا مهتمّ باكتشاف ذاتي، وباكتشاف طبيعة الإنسان الذي أعيش معه في الأرض، وسائل التواصل بحر زاخر يبوح فيه إنسان لإنسان لا يعرفه، بما لا يعرفه عنه، بلا أن يطلب ذلك منه. يحاول أكثر القراء كتابة انطباعاتهم وآرائهم وأحلامهم ورغباتهم وميولهم ومعتقداتهم، وإن كان بعضهم يلجأ للكتابة بوصفها قناعًا يحتمي فيه فيعلن غير ما يخفي، متسترًا على قناعات ومعتقدات مضطَهدة في المحيط الذي يعيش فيه.
التطبيقات تنشر كتابات متنوعة، فيها مادة غزيرة، لا تبدو ذات قيمة بنظرة عاجلة، يراها القارئ الجادّ هامشيّة وربما رثة وتافهة، هذه الكتابات فضلاً عن أنّها تمارين يحاول مَن يمارسها أن يتعلّم الكتابة، فهي ثروة مهمة للباحثين في التخصّصات المختلفة وهو الأهمّ، يدلي فيه مَن يكتبها باعترافات مجانية عن شؤونه وشجونه واهتماماته وحياته الشخصية والمجتمعية، وهي نافذة يتكشف فيها شيء مما خفي عنا من الطبقات الغاطسة في أعماق الإنسان، بصورة أجلى مما يتكشف في الكتابات المفكّر فيها بدراية، وتعكس أحوال الإنسان وأمانيه وشجونه ومتاعبه فردًا ومجتمعًا، وتفاصيل مبعثرة للواقع الذي يعيش فيه بصورة مباشرة.
وسائل التواصل من أهمّ مكاسب العصر الرقمي، فقد مكنتني هذه الوسائل من التواصل مع الجيل الجديد، بوصفي إنسانًا نموذجياً في المستقبل لا في الماضي، فمعظم أصدقائي هم من أبنائي وتلامذتي ومن يتواصل معي من الجيل الجديد، ويسرت لي شخصيًا الحضور اليومي الحار، والحوار المتنوع معهم. أقول بلا تردّد: والتعلّم المستمر منهم، أتعلّم التفكير على حافة الخطر كلّ يوم من الأسئلة المشاغبة للأذكياء والموهوبين منهم، أتعلّم الإصغاء لمن يعاند قناعاتي وكثير منهم يعاندها، أتعلّم التواضع المعرفي وقول: لا أعلم، إن كنت لم أعثر بعد تفكير طويل على جواب لشيء من أسئلتهم المحرجة، وليس قليلًا ما هو محرج وغريب من تلك الأسئلة. معهم تحرّرت من توهم: "لكل سؤال جواب"، رأيت الأسئلة الكبرى لا جواب نهائيًا لها، أتعلّم منهم المغامرة المعرفية والتوغل في فضاء لبث مسكوتًا عنه ونائمًا في ذهني، أتعلّم ضآلة وعيي للواقع والمديات اللامتناهية لجهلي بالعالم، أتعلّم أن الجيل الإنساني الجديد في عصرنا أكثر مخلوق لا يشبه آباءه وسلالته من بني آدم، أتعلّم حكمة الحياة وأكثّف خبراتي وأراكمها معهم، وكيف أني وجيلي ينبغي أن نكفّ عن دور المعلّم المغرور لكلِّ شيء في حياة هؤلاء الأبناء الأعمق دراية منا بشؤون الواقع الذي يعيشون فيه، ويدركون كيفية تشكل الصورة البديلة لعالمهم. هؤلاء الأبناء تفوقوا علينا نحن الآباء بأشياء كثيرة، أبرزها طريقة تفكيرهم وأساليب تعاطيهم مع الواقع، فلم تعد أسئلتهم أسئلتنا، ولا أجوبتهم أجوبتنا، ولا أحلامهم أحلامنا، ولا أمانيهم أمانينا، ولا رؤيتهم للعالم رؤيتنا، ولا أوهامهم أوهامنا، ولا متاهاتهم متاهاتنا، هم الأجدر بالحديث عن آلامهم وأحلامهم وطموحاتهم وأوهامهم، والأكثر دراية بوعي احتياجاتهم وواقعهم ورؤية العالم من حولهم. أظن أن الأبناء لو تخلصوا من مفاهيمنا المحنّطة، وأيديولوجياتنا المهووسة بالأوهام والأماني الخياليّة، لأنقذوا أنفسهم وأنقذونا من الواقع المزري الذي صنعته أيدينا. في عصر الذكاء الاصطناعي لم تعد القيم والمفاهيم تنطبق على كلِّ مصاديقها التقليدية المعروفة، فمفهوم الأمن السيبراني هو الأهمّ من كلّ شكل من أشكال الأمن، بل تبدلت حتى مصاديق مفاهيم الكتاب والقراءة والتربية والتعليم والعائلة وغيرها.
واحدة من الآثار الموجعة للقراءة اليقظة أنها تفجر الأسئلة الحارقة لهدوء العقل ووثوقيات المعتقد الموروثة. بهذه الأسئلة، والحرص على جواب ما لا جواب له، يتصدع الانتماء للمعتقد والجماعة والطائفة والهوية، ويعيش الإنسان اغترابًا موحشًا في مجتمعه للعقل والروح والقلب. الإنسان الذكي، الذي يقرأ ويفكّر فيما يقرأ، يتنقل في محطات متنوعة بحياته، المحطة التالية لا تطابق بالضرورة المحطة السابقة، فيشتدُّ تبعًا لتلك التحولات اغترابه الاجتماعي، وغالبًا ما تتزلزل شبكة علاقاته الاجتماعية بهذه التحولات، ويعجز عن إقناع الغير برؤيته الجديدة للعالم، ويشتد اغترابه حين يرفض أكثر مَن يعيش معهم القبول بتطور وعيه، وتقلقهم شجاعة عقله.
لو صار التفكير العميق حالة ملازمة لكلّ شيء في حياتنا يصير ضربًا من الهوس الموجع، الذي يضيّع على الإنسان المتعَ الحسيّة وحتى المعنويذة، ويعزله في منفىً يعيش فيه هو وأفكاره، وينفر منه أقرب الناس إليه. في مواقف لافتة كان ينسحب بعض الأصدقاء فجأة بهدوء من لقاء ودي، إذا تغلب التفكير العميق على الحديث. كنت أتساءل عن دوافع ذلك، قدّمت افتراضات متعدّدة لتفسير هذه المواقف وتكرّرها، إلى أن انتهيت إلى قناعة مفادها: أن التفكير العميق ضدّ طبيعة الإنسان، لو لاحظنا كثيرًا من أفعال الإنسان ومواقفه وكلماته ومعتقداته نراها تنبعث عن عواطفه وانفعالاته ومصالحه واحتياجاته المتنوعة، وقلّما تصدر عن تفكيره المتأمل الصبور.
لا قيمة لقراءة لا يستفيق فيها العقل، ولا يستفيق فيها التفكير، ولا تنبعث منها أسئلة جديدة. القراءة ليست هدفًا بذاتها، تظل القراءة شيئًا والتفكير شيئًا آخر، قراءة الكتب تزود الإنسان بمعلومات متنوعة، وآراء متعددة. التفكير هو الأساس الذي يعيد بناء هذه المعلومات والآراء في سياق منطقي، وينتج رؤية خاصة في ضوء هذا السياق. لا أبالغ في أثر القراءة بتكوين المعرفة، كما أقرأ واستمع إلى إفراط ومبالغة وتهويل بالحديث عن ذلك، أظن الدعوة للقراءة اليوم صارت موضة للتباهي. أرى في وسائل التواصل شبابًا في مقتبل العمر يكدّسون عشرات الكتب المتنوعة نهاية السنة، بعضها فلسفيّة عميقة، تتطلب مطالعتها شخصية صبورة تفكر بهدوء، ولا تيأس من التوقف طويلًا لفهم النصوص عبر التفكير بها والتأمل بمضمونها. يحتاج مثل هؤلاء الشباب إلى اعتراف النخبة بمواهبهم وثقافتهم العالية فيلجؤون لهذا السلوك الاستعراضي، يعملون على الدعاية لأنفسهم قبل التكوين الرصين الذي يتطلب إنفاق سنوات طويلة في القراءة الجادة والتفكير الصبور. كانط فيلسوف الأنوار كان يفكّر بعمق وقتًا طويلًا ولا يقرأ إلا قليلًا، الفلاسفة يعكفون على قراءة النصوص الكلاسيكية بتدبر وتأمل وتفكير
يسبر أغوارها، ولا يلاحقون كلّ شيء، ولا يمضغون الكتب كما تُمضَغ الشوكولاتة.