الإسلام والسببيَّة والحريَّة.. سريان الوجود
صالح رحيم
هذه محاولة لعرضِ كتاب يقدم دراسة مفصلة عن مفهومي الحرية والسببية في الفلسفة الإسلامية، وعلم الكلام الإسلامي من تأليف أوزغور كوجا، أستاذ مشارك في كلية بيان كليرمونت الإسلامية للدراسات العليا في الولايات المتحدة.. الكتاب صادر عن منشورات نادي الكتاب عام 2024 بطبعته الأولى، بترجمة إياس حسن وأحمد .م. أحمد.
السببيَّة في الفترة المبكرة
في الإجابة عن طبيعة العلاقة بين الله والعالم، ينتهي المعتزلةُ إلى تبني نزعة عقلانية في تعاملهم مع مسألة خلق القرآن، بقولهم إن القرآن مخلوقٌ، حادث، وليس قديماً، لأننا إذا قلنا بقدمه ظهر أنه يشارك اللهَ في قِدَمِه، وهذا مما ينسف القول بوحدانية الله، وعليه لا مناص من القول بأنه مخلوق، ومن أجل تجاوز مشكلة تعدد القدماء، تعامل المعتزلةُ مع الصفات الإلهية بوصفها "عين الذات" بتعبير أبي الهذيل العلاف. وقد عبّروا عن هذه الوحدة بقولهم إن اللهَ عالمٌ بعلمٍ هو هو، وقادرٌ بقدرةٍ هي هو، وحيٌّ بحياةٍ هي هو.
لكنّ الأشاعرة، رفضوا هذا الموقف، أي موقف المعتزلة، لأنه يخصص للعقل دوراً كبيراً في قياس ما يثبت لله وما ينفى عنه. بل يجادل الأشاعرة بأنه "على الرغم من أن البنية اللغوية للوحي القرآني مخلوقة بقواعدها، وأحرفها، ومنطقها، إلا أن هذا لا يعني أن القرآن مخلوق".
إن القرآن مخلوق من جهة وغير مخلوق، من جهةٍ أخرى، يتم هذا التشابك بين "المتناهي واللامتناهي في القرآن بطريقة تتحدى الإدراك البشري".
يسأل أوزغور كوجا، كيف يمكن لهذه الخلاصات أن تؤثر في التفكير الأشعري في السببية؟ فيجيب، بأن فكرةَ فصل الصفات الإلهية عن الذات الإلهية تؤدي إلى رؤية متميزة للفعل الإلهي والسببية في العالم. ولكن كيف؟
نرى أن المعتزلة يؤمنون بوجود علاقة ضرورية بين السبب والنتيجة، فإذا ما جمع القطن والنار، فإن الاحتراق يحدث بالضرورة، وذلك لأن لكل كائن طبيعة ويعمل بالضرورة وفقاً لهذه الطبيعة. والعديد من علماء المعتزلة يستخدمون تصورات الطبائع (طبيعة، طبع...). يرى إبراهيم بن سيار النظام-وهو معتزلي- "أن اللهَ يضع طبائع في الموجودات التي تتصرف بعد ذلك وفقاً لطبيعتها دون أن تتحدد بها". كذلك الجاحظ يوافق على أن أشياءَ مثل النار والماء لها طبيعة محددة لا تتغير، وينقل كوجا عن "كتاب الحيوان" أنه يقول "إن الكائنات الحية وغير الحية لها صفات جوانية متأصلة" يسميها طبيعة. إنّ الله من وجهة نظر المعتزلة، لا يخلق أشياء تتعارض مع طبائعها أو بدون علة معقولة، وإن القول بالعكس، فهو دفاع عن العبثية في الأفعال الإلهية، تشكل الطبيعة والسببية عندهم، مبدأ المعقولية.
يرفض الأشاعرةُ مفهوم الطبائع، ويرون أنه يتعارض مع مفهوم الحرية الإلهية، وأن الانتظام البادي في العالم ما هو إلا عادة من عادات الله، وأن الله غير ملزم بهذه العادات، وعليه فإن علاقة السبب بالنتيجة هي علاقة إمكان وليست علاقة ضرورة، يظهر لدى الأشاعرة من خلال تعاملهم مع مفهوم السببية بوصفه عادة، تتم عبر الاقتران، والمجاورة، ما يسميه كوجا بـ "لاهوت الإمكان". إنّ ما نراه من انتظام في العالم لا يخضع لمفهوم الضرورة، إنما هو ممكن فحسب، وعليه يمكن إبطال مثل هذه العمليات، أي "يمكن أن يحلق الحجر في الهواء، ويمكن أن تحدث الرؤية بلا ضوء، والشبع بلا طعام، والحرق بلا نار، عندما يوقف الله عاداته". وحتى المعجزات النبوية، التي تظهر أنها خرق لقوانين الطبيعة، هي في الواقع مظهر للطبيعة الممكنة للعلاقات السببية. وفي ما يتعلق بالقدرة أو الإرادة البشرية، فإن المعتزلةَ يرون أن الإنسان يملك قدرةً سببية، وبدافع تنزيه الله من الشر، ينسبونه إلى الإنسان نفسه، وبالتالي هذا يعني أن الإنسان هو خالق أفعاله، وهو مفوض في أموره، وبناءً على هذا التفويض يثاب في يوم القيامة أو يعاقب.
لكنّ الأشاعرة يرفضون هذا القول، ويرونه نوعاً من الشرك، كل ما يمكن للإنسان أن يفعله هو الاكتساب، إن القول بـ "نظرية الكسب" لدى الأشاعرة لها مركزية في لاهوتهم، وهو ما يسمى بالنزعة الظرفية، أي إن الفعل الإنساني ما هو إلا مناسبة أو ظرف لفعل الخلق الإلهي، أي إن الله هو الذي يخلق الأفعال وما على العبد إلا اكتسابها.
ابن سينا
انقسم الباحثون بين من يقول بأن ابن سينا جبري تماماً ولا وجود للحرية الإلهية أو البشرية في نظامه الفلسفي، وبين من يقول بالعكس، خصوصاً وأنه يقدم نصوصاً تؤيد قوله بالجبرية من قبيل "فإذن وجود كل معلول واجب مع وجود علته ووجود علته واجب عنه وجود المعلول". وعلى العكس من هذا الرأي يذهبُ نصير الدين الطوسي إلى أن الجوهر بالنسبة إلى ابن سينا "يحكمه الله ولا يطغى عليه تماماً". ومن ثم يحافظ على كيانه شبه المستقل، وهذا بالنسبة إلى الطوسي أساس الحرية في نظام ابن سينا.
أما أوزغور كوجا فله رأي مغاير، إذ يرى أن ابن سينا يقدم "تفسيراً تشاركياً للسببية" يؤكد الحرية الخلقية والإلهية على أساس المفهومين الأساسيين للميتافيزيقا، الوجود والماهية. الوجودُ عند ابن سينا مشترك بين جميع المقولات، وإن ما يميز الموجود هو ماهيته، و"ليس الحد إلا ماهية المحدود".
يميز ابن سينا بين ثلاثة أنواع من الوجود، واجب الوجود، وممكن الوجود، ومحال.
أما واجب الوجود: فهو الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال، فلا يمكنه ألا يوجد.
أما ممكن الوجود فهو الذي متى فرض غير موجود أو موجوداً لم يعرض منه محال. أما مستحيل الوجود أو ممتنع الوجود فهو الذي متى فرض أنه موجود عرض عنه محال مثل وجود واجب الوجود ثانٍ.
إنّ واجب الوجود هو سبب ذاته، وهو واجب الوجود بذاته، في حين أن وجوب ممكن الوجود يرجع إلى شيء آخر غير نفسه، فهو بالتالي واجب الوجود بغيره. وواجب الوجود بذاته، هو وجود خالص، مجرد الوجود وبدون ماهية.
وهو خير محض؛ لأنه وجود محض وتحقق فعلي، متحرر من الماهيات والإمكانات، فالماهيات أو الإمكانات تعني تقييد الوجود الخالص ومن ثم النقص. وهو خير محض أيضاً من الجهة الأخلاقية، إنه يشترك في وجوده مع الماهيات الأخرى، لأن "الخير لما كان مفيداً لكمالات الأشياء وخيراتها، وقد بان أن واجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيداً لكل وجود، ولكل كمال"، الأول يمنح الكمال لغيره لأنه خير وكريم.
واجب الوجود عقل محض لأنه ذات مفارقة للمادة من كل وجه، وبصفته عقلاً محضاً فإن الوجود يعلم كل شيء، وذلك من خلال علمه بنفسه أنه مبدأ كل موجود آخر، فالله إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها.
يرى كوجا أنه من الضروري أن نفهم ما يعنيه الوجود بالنسبة إلى ابن سينا لكي نفهم كيف استخدمه لبناء نظريته عن السببية، إنه خلافاً للنظرية الأشعرية بخصوص الصفات الإلهية يبني العلاقة بين الله والعالم من خلال مفهوم الوجود.
فيض الوجود على الماهيات هو الأساس الميتافيزيقي لكل فعالية سببية.
يطابق ابن سينا بين مقولتين مختلفتين للسببية، هما السببية المادية، والسببية الميتافيزيقية، فالله ليس فقط سبب حركة وسكون الموجودات، لكنه أيضاً السبب المباشر لوجودها ذاته، وهذا التمييز بين السببية المادية والميتافيزيقية هو الذي يسمح لابن سينا بتأطير التصورات الأرسطية والأفلاطونية الحديثة للسببية على أنها متكاملة وليست متناقضة. لذا يرى ابن سينا أن مبدأ الأسباب الأربعة (المادية، الصورية، الفاعلية، الغائية) أداة ضرورية لأي محاولة لمعرفة العالم من حولنا.
يطرح كوجا سؤالاً حول استخدام ابن سينا لهذا المبدأ، ثم يجيب عليه، يقول "من وجهة نظري، لأن تفسير أرسطو خاص بدراسة العالم المادي الطبيعي، ولا يتعامل مع الأساس الميتافيزيقي للسببية، في حين أن هدف ابن سينا هنا هو الحفاظ على الفهم الأرسطي للسببية في مجال العالم الطبيعي، ولكن أيضاً تأسيس فكرة السببية الميتافيزيقية، وهكذا يضع ابن سينا المبدأ الأرسطي للسببية المادية ضمن السياق الأكبر للسببية الميتافيزيقية".
ومن منظور تصور الوجود والماهية، لدى ابن سينا، فإن الحرية البشرية، أو الإرادة الحرة تتأتى إلى الإنسان نتيجة مشاركته الوجود، فالموجودات تشارك في الحرية الإلهية، والإرادة، والعقل، نتيجة تلقي نصيبها من هبة الوجود.
لكن اللافت عند ابن سينا أن الماهيات غير مسببة، إنما يعلمها الله فقط، وهي تعتمد عليه في الوجود لكنه لا يحتمها، وهي تشاركه في الأبدية، وأن هذه المشاركة لا تقوض الوجدانية الإلهية ما دام وجودها وليس ماهيتها يعتمد سببياً على الله.
السهروردي
الأمر لا يختلف مع السهروردي، إنه يقدم أيضاً التفسير التشاركي نفسه للسببية، والأنطولوجيا عنده تدرجية، فالله هو نور الأنوار، وهذا النور المنبعث من نور الأنوار ينير الماهيات المظلمة للموجودات، والموجودات تتميز عن بعضها البعض وفقاً لحصتها من النور. إنَّ نور الأنوار هو سبب كل شيء، غير أن الموجودات فعالة سببياً نتيجة مشاركتها النور. وعليه تكمن حرية الموجودات، في هذه المشاركة، لأن المشاركة في النور هي مشاركة في الصفات الإلهية التي يقتضيها النور ويوجبها، بما في ذلك الوجود، والحياة، والوعي، والقدرة، والحرية. وفي امتلاكها الماهية الخاصة أيضاً، لأن الماهيات توجد بالنور ولا تتحدد به.
اللهُ والعالم ليسا شيئين منفصلين، بل يشكلان شيئاً واحداً متمايزاً وفق شدة النور.
والأشياء عند السهروردي تتحرك باستمرار، لأن عشقها لنور الأنوار هو الذي يحفزها على الحركة.
النزعة الظرفيَّة في العصر الوسيط
يرى كوجا أن هناك خلافاً بين الدارسين فيما إذا كان الغزالي من القائلين بالظرفية، فمن وجهة نظر فريق منهم يرى أن الغزالي يقول بأن الله هو الفاعل الوحيد في العالم، على الرغم من أنه لا يمتنع من استخدام مصطلح السببية بوصفه أداة كشفية.
وأيضاً هناك من يرى بأنه يرفض السببية الأنطولوجية ويقبل السببية المنطقية، لكن أوزغور كوجا، يرى أن النزعة الظرفية تبدو الخيار الأكثر احتمالاً، لأن حجج الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" وكتاباته الأخرى تتوافق مع الميول العامة للاهوت الإمكان الأشعري المبكر.
فهو فيما يرى كوجا، يستخدم القياسات والحجج نفسها التي استخدمها الأشاعرة الأوائل وكذلك رده على ابن سينا يستند إلى فكرة الظرفية الأشعرية حول الترجيح بلا مرجح. وهو في كل هذا يهدف إلى الحفاظ على مركزية الإرادة الإلهية بين الصفات الإلهية، فالنظرية الأشعرية تفهم الفاعلية الإلهية في ضوء ثلاث صفات أساسية: العلم، والإرادة، والقدرة، وتضع الإرادة الإلهية في المركز.
يرفض الغزالي فكرة قدم العالم، لأن التضمينات الجبرية لهذا الرأي تهدد الإرادة الإلهية، والقول بأن العالم يفيض بالضرورة عن المبدأ الأول يعني أن العالم لم يخضع الإرادة بل أوجبته طبيعة الأول، ومن ثم فإن إله الفلاسفة لا يفعل طواعية وإنما بدافع الضرورة. وفي ما يتعلق بحجة الفلاسفة حول إمكان التغير في علم الله، يرد الغزالي بأن الإرادة الإلهية يمكن أن تتسبب بحدث زمني دون الحاجة إلى تغيير من الإمكان إلى الفعل، إذ بإمكان الإلهي أن يختار بدون تفضيل ودون أي هدف، فالإرادة هي صفة وظيفتها التفريق بين شيء وشيء آخر مشابه أو مطابق له، حتى لو لم يكن هناك سبب للترجيح.
وفي الموقف من السببية، يؤيد الغزالي النظرية الظرفية الأشعرية عن السببية بقوله "الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مُسَبَّبَاً ليس ضرورياً عندنا".
يختم كوجا بقوله إن الغزالي برفضه قدم العالم، وفكرة الفيض الضروري، وبساطة الأول، وتصوره "الترجيح بلا مرجح"، والكثرة والماهية في الأول، تستند إلى همه بالحفاظ على الإرادة الإلهية.
ولا يختلف الرازي عن الأشاعرة السابقين من حيث أن الكائنات المخلوقة تفتقر الى الفاعلية السببية، فهو يكتب أن "الإدعاء بوجود فاعل حقيقي غير الله ليس صحيحاً، وأن العلاقة بين السبب والنتيجة ليست علاقة ضرورة ومع ذلك فهي متسقة ويمكن التنبؤ بها، إذ إن الله يخلق السبب والنتيجة ويربطهما ببعضهما البعض على نمط اعتيادي مفروض ذاتياً، وهذا الاعتياد يضمن إمكانية التنبؤ".
يرفض الرازي مفهوم الطبيعة كمبدأ فعال سببياً، فهو يرى أنه إذا كانت الطبيعة تحيل إلى ماهية الشيء فيجب رفضها لأنها تدعم فكرة الضرورة التي تتعارض مع الحرية والسيادة الإلهيتين.
وهو مثل الأشاعرة تماماً في ما يتعلق بمفهوم الكسب، فهو يرى "أن العبد إذا صمم العزم على الطاعة، فإنه تعالى يخلقها، ومتى صمم على المعصية فإنه يخلقها". وحتى في وصفه للمعجزات جاء متفقاً مع السابقين من الأشاعرة بأنها خروق للعادة في الخلق الإلهي، خلق الله المعجزات لتؤكد صدق رسله.
ينتهي كوجا بالقول بأنه يمكن وضع الرازي بأمان ضمن التقاليد الظرفية، كونه رفض الفاعلية السببية للكائنات المخلوقة، ويرفض مفهوم الطبيعة، ويؤكد مفهوم "الترجيح بلا مرجح" ويقبل نظرية الكسب، ويستخدم مفهوم العادة لشرح الانتظام في العالم ويرى المعجزات خرقاً ممكناً لأنماط العادة الإلهية.
ابن رشد: الله فعلُ وجودٍ محض
يحافظ ابن رشد على الفهم الأرسطي للسببية، في ضوء التفسير التشاركي الأوسع، لأنه لم يختلف عن ابن سينا، فهو يرى أن أساس الفعالية السببية للموجودات في مشاركتها فعل الوجود المحض. فالأول هو فعلُ وجود محض والموجودات هي ممكنات ماهوية خالصة، والخلق هو تحويل الممكنات الماهوية هذه إلى تحققات فعلية، إلى وجود بالفعل، وغن الممكنات الماهوية تتحقق بالفعل من خلال فيض فعل الوجود المحض للأول، وتكون الموجودات فعالة سببياً من خلال مشاركتها في الفعل المحض للأول.
ابن عربي: العلائقية
توصف الميتافيزيقا عند ابن عربي بأنها علائقية، وهذا يعني أن الموجودات تفهم على أنها محصلة علاقاتها مع الله، وأن أسماء الله هي مواضع تدل على هذه العلاقات. وهذه الأسماء صيروراتية، لأنها ترى العالم بوصفه مظهراً للصفات الإلهية، المتواصلة والمتغيرة باستمرار. يمكن القول بأن هذه العلائقية والصيروراتية في ميتافيزيقا ابن عربي ناجمة عن دمج كل من التفسير التشاركي للسببية، والتفسير الظرفي للسببية.
ولفهم هذه العلائقية، يقدم كوجا ثلاث طرق:
1 -الابستمولوجية: من هذا المنظور، تشير الأسماء الإلهية أو أسماء الله الحسنى، إلى مقولات لاهوتية تدل على الجوانب المختلفة للعلاقة بين الله والكون، كل اسم منها يعد جانباً خاصاً من التجلي الإلهي، العالم هو حقيقة المواضع التي تتجلى فيها الأسماء الإلهية باستمرار، وإن فهم الأسماء الإلهية هو مشاهدة الحق في مظاهره.
2 -الثيوصوفية: أما من هذا المنظور، فإن الأسماء الإلهية تشير إلى الإمكانات اللانهائية المخبأة في الذات الإلهية، وتحتاج الصفة الإلهية، كإمكان إلى أن تظهر ومن ثم فإن ظهور
الله يحقق هذه الإمكانات.
3 -الأنطولوجية: إن ظهور الأسماء الإلهية، يجلب النماذج الثابتة (الأعيان الثابتة) إلى الوجود والطريقة المفيدة للتفكير في الأعيان الثابتة هي رؤيتها على أنها إمكانات أنطولوجية محتواة في المطلق.
وعليه فإن السببية من منظور العلائقية، أن الله هو الفاعل النهائي، بل هو الفعالية السببية كلها، وما نراه من أسباب ما هي إلا أسباب ثانوية، أو حجاب بين ما يراه المرء وبين الحقيقة الإلهية التي تجري وراءه، بل يمكن التعامل مع الأسباب الثانوية على أساس عملي يمكننا أن نتنبأ من خلاله.
لكن رغم أن الله هو الفاعل الحقيقي، يمكن أن تكون للإنسان فعالية سببية، طالما أنه يشارك في وجود الله، والحرية مظهر من مظاهر الله، وعلى هذا الأساس يمكن للإنسان أن يختبر هذه الحرية، وعليه، يمكن أن ينسب الفعل إلى الله وإلى الفاعل البشري في الوقت نفسه. وعلى هذه الحال، لا يختلف القيصري والقونوي، من حيث تعاملهم مع السببية، والحرية، على أساس تصور الوجود الذي قدمه ابن عربي.
ملا صدرا
الوجودُ لدى ملا صدرا "الأصل الثابت في كل موجود" وهو لجلائه ووضوحه غنيٌ عن التعريف". ليس للوجودِ وجودٌ ذهنيٌّ لأنه لا يمكن تصوره من خلال أي شيء، لأن الوجود عنده، أجلى الأشياء حضوراً وكشفاً، وهو عنده، ليس "أعمها شمولاً" بل "أخصُّ الخواص تعيناً وتشخصاً" وذلك لأن "به يتشخص كل متشخص"، إنه تحقق محض، وحقيقة الوجود مطابقة لله. "الباري محض حقيقة الوجود". وحقيقة الوجود لكونها أمراً بسيطاً غير ذي ماهية". الله وجود محض، وكمال محض، ولا يتحدد في ماهية. الناقص يعتري الماهيات، ولا يمس حقيقة الوجود المحض. ويصنف ملا صدرا الوجود إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: هو الوجود المطلق، والوجود المطلق فوق التعريف، ولا يتعلق إلا بالله.
النوع الثاني: الوجود المقيد، جميع الموجودات المخلوقة لها وجود مقيد، لأنها لا تقوم بذاتها، وهي من حيث علاقتها بأنفسها، ليست سوى ماهيات غامضة، إنها بحاجة إلى واهبٍ للوجود قائم بذاته، ولا يمكن القول إنها موجودة بشكل صحيح حتى تحصل على حصتها من الوجود المطلق.
النوع الثالث: الوجود المطلق المتسع، وهو الوجود الذي يربط بين النوعين الأولين من الوجود، هذا النوع من الوجود، يشير إلى فعل وهب الوجود إلى الكائنات الممكنة.
ينتمي هذا النوع من الوجود، إلى مجالٍ لا هو الوجود المطلق، ولا هو الوجود المقيد. ما ينبع من الواحد هو الوجود نفسه الذي يصبح متمايزاً عندما يتعلق بالموجودات. ويسمي ملا صدرا، هذه العملية "سريان الوجود" أو "انبساط الوجود".
ومن الخصائص الباهرة في نظام ملا صدرا الفلسفي، هو قوله بالحركة الجوهرية، التي تفسر الخلق المستمر للعالم، فالعالمُ من وجهة نظره، يُخلق باستمرار من جديد، وفي كل لحظة وكما يقول "كل جسم وجسماني متعلق الوجود بالمادة بوجه من الوجوه، فهو متجدد الهوية، غير ثابت الوجود والشخصية، وهو تجدد الطبيعة، في التحول، والتبدل، والسيلان بحسب جوهر ذاته".
ولأن اللهَ فعلٌ خالص، ولفعله الخالص هذا، يخلق ويحافظ على بقاء العالم المتجدد الذات والهوية.
لم يفرق ملا صدرا بين الله وصفاته، أو بين الوجود الإلهي والصفات الإلهية، إن صفاته عين ذاته، ووجوده عين حقيقته، وهي على كثرتها وتعددها موجودة بوجود واحد.
إن هذا التصور، للصفات الإلهية والوجود، يشير إلى مشاركة الموجود في هذه الصفات، من خلال انبساط أو سريان الوجود إلى الموجودات، أو تحققها، فإن نفاذ الوجود، يعني نفاذ الإرادة والوعي والحياة. ووفقاً لهذا التصور، تكون للموجود إرادة وحرية، من خلال المشاركة في الوجود.
خاتمة
يعرض الكتاب أيضاً للنزعة الظرفية الأشعرية بوصفها فلسفةً ظرفيةً للعلم، فيأخذ بطرح آراء الجرجاني، وكذلك في العصر الحديث، فيناقش حجة سعيد النورسي، وآراءه التي تتمحور حول الطروحات العلمية الحديثة، مفسراً إياها بأدوات أشعرية ظرفية، من خلال القول بالسببية الثانوية، وإن الله يخلق السبب والنتيجة، وانتفاء الضرورة بينهما، والتعامل مع السببية الثانوية بوصفها إجراءً عملياً يتيح لنا دراسة الكون والتنبؤ
بحركاته.