ترجمة: نجاح الجبيلي
التقى راينر ماريا ريلكه والرسامة التعبيرية باولا موديرسون بيكر في صيف عام 1900 في مستوطنة الفنانين الألمان في فوربسويد، التي تقع إلى الشمال من بريمن في منطقة مسطحة تعصف بها الرياح من مستنقعات نباتات الخث، والخلنج، وأشجار البتولا الفضية. ولدا بفارق عام واحد فقط في منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، وكانت بيكر وريلكه رائدين في الفن والشعر في فجر القرن العشرين. وتشهد مراسلاتهما على حوارهما الحيوي والمستمر والارتباطات الإبداعية الكامنة بينهما.
إن صورة باولا بيكر المؤرقة لريلكه، وقصيدته التأملية "قداس لصديقة"، التي كتبها في أعقاب وفاة باولا بيكر المفاجئة، تُحيي ذكرى الأهمية التي يحملها كل منهما في حياة الآخر. استمرت بيكر وريلكه في الاستمتاع بصداقة قوية خلال فترة شهدت اضطرارهما إلى مواجهة تحديات شخصية ومالية أثناء سعيهما لمهنتهما الفنية. انقطعت هذه الصداقة بسبب وفاة بيكر المبكرة بشكل مأساوي في عام 1907، لكنها تركت في أعقابها سلسلة رائعة من الرسائل.
على الرغم من كونها رائعة ومثيرة للذكريات عند مناقشة طبيعة الحياة الزوجية وصعوبة تأثيث المنزل، كما هو الحال عند استكشاف الإمكانيات التعبيرية للفن والشعر، فإن الرسائل المتبادلة بين بيكر وريلكه هي شهادة على المواهب الوصفية الاستثنائية للشاعر والفنانة. تم جمعها باللغة الإنجليزية لأول مرة وتقديمها من خلال مقالة مضيئة بقلم جيل لويد، وهي مؤرخة فنية، شاركت في تحرير العديد من كتالوجات المعارض، ومؤلفة كتاب "التعبيرية الألمانية والبدائية والحداثة" و"التعبيرية غير المكتشفة".
أما راينر ماريا ريلكه (1875- 1926) فكان كاتباً نمساوياً اشتهر بمجموعاته الشعرية "مرثيات دوينو" و"سوناتات إلى أورفيوس"، وروايته "دفاتر مالتي لوريدس بريج".
أنموذج من الرسائل
25 أكتوبر- تشرين الأول 1900
لقد اكتملت شقتي للتو. لا أعرف كيف حصل ذلك؛ فجأة هدأ كل شيء وأصبح على الفور مأهولًا ومألوفًا، كما لو أنه لم يعد جديداً – ومع ذلك… أود بلهفة أن أخبرك كيف تكوّن كل شيء، وأين ولماذا سارت الأمور على ما هي عليه. حسنًا، هناك مدخل صغير غير ملحوظ، ومطبخ سيصبح مثيرًا للاهتمام فقط بسبب محاولاتي اليومية للطهي (يجب أن أقوم بإعداد كل شيء بنفسي!)؛ من المدخل، تدخلين عبر باب صغير وتحت ستارة حمراء داكنة من الكتان الثقيل المنسوج إلى مكتبي الكبير جدًا. توجد نافذة كبيرة مكونة من ثلاثة أجزاء مثبتة جزئيًا في فسحة بعرض الغرفة نفسها. على يمين الفسحة، يؤدي باب زجاجي إلى شرفة صغيرة، بينما على اليسار تتصل الفسحة بجدار فارغ يتصل بجدار غرفة الدراسة. يوجد أسفل النافذة مقعد واسع مغطى ببطانية زرقاء وحمراء، وأمام هذا المقعد عتبتان، في وسط الغرفة، يوجد المكتب الرئيسي. يوجد مكتب ثانٍ طويل جدًا تم إعداده كطاولة عمل للمهام المسائية - مستقل عن النافذة، بزاوية أمام الموقد، ويسد الزاوية قطرياً. وعلى يسار النافذة الكبيرة تتدلى سجادة ضيقة ذات إطار ملون يبقي تلك الزاوية معتمة، وأمامها ينتصب السماور الأصفر على قاعدة روسية، وتحيط به بعض الأشياء الروسية والصور والأيقونات المقدسة.
كرسي عريض جداً مغطى بسجادة تركية قديمة جيدة يتصل "على يسار الجدار" بخزانة السماور بحيث يسهل وضع كوب الشاي هناك. نُشرت السجادة التركية على الحائط إلى جانب لوحة رسمها "روبنز" بعنوان "رحلة المجوس" (وهي لوحة زيتية - قديمة، طولها متران، وارتفاعها 47 سم) - وتوفر الخلفية لأفضل إرث: شعار عائلي في إطار فضي ثمين. ثم هناك طاولة خضراء صغيرة يجب أن أتناول فيها ما أطبخه، وخزانة جانبية صغيرة. نظراً لأنني اضطررت إلى الاكتفاء بالكثير من الأشياء الموجودة، بما في ذلك ورق الحائط اللطيف والمريح على الإطلاق (الأصفر الباهت مع زهور القرنفل الشاحبة والمتمايلة بهدوء باللون الأحمر الباهت)، فقد قمت بإنشاء خلفيات معينة يتم تعليق الصور عليها. وكلها متصلة بطريقة أو بأخرى: على سبيل المثال السجادة التركية الموجودة أسفل الشعار، وعلى الجدار المقابل (الذي يهيمن عليه رف كتب مكون من ثماني خانات مع مقعد ضيق ملحق به)، قطعة قماش ثمينة باللونين الأخضر والذهبي في الأعلى التي وضعت فيها صور الأجداد والأسلاف… ولكن ما الفائدة من إخبارك بكل هذا؟ أدرك أنه لن يصل إلى أكثر بكثير مما يمكن استخلاصه من مقالة مدرسية أو من روايات السفر القديمة، أو في أحسن الأحوال سأصل إلى مستوى التعليمات المسرحية… لكنني لم أرغب في إعطائكِ تلك الأوصاف يا آنسة بيكر، بل (أدركت ذلك متأخراً بما فيه الكفاية) شيئاً من المسرحية التي يتم عرضها في هذه الغرفة.. الحركة، الحركة! بحق السماء لا يوجد وصف! والمسرحية؟.. ربما لم تبدأ بعد؟
أوه، يا صديقتي العزيزة، - الآن جرى إعداد المسرح بالفعل، وبما أنه تم بناؤه من أكثر من مجرد ورق مقوى، فمن المحتمل أن يستمر لفترة من الوقت.. هناك زهور أقحوان؛ في الوقت الحالي، لا أعرف أين هي، لكن ما يريحني هو معرفة أنها هنا. حلّ المساء والصمت. يبدو من المستحيل تقريبًا ألا تظهر ببساطة في غرفتي في هذه اللحظة - حيث جرى تجهيز كل شيء والصور معلقة على الجدران التي أصبحت الآن، إذا نظرتِ إليها من الخارج، جدران منزلي الصغير. أنا أنتظر: أنتظرك وكلارا ويستهوف وفوجيلر ويوم الأحد والأغنية... ولن يأتي أحد. أعلم أنه لن يأتي أحد، ومع ذلك أنتظر. أخشى أن أتمنى قدوم الآخرين – هناك الروس الذين من المفترض أن أعمل معهم، ونادرا ما يكون هناك أي شخص آخر. لكن ذات صباح سأتمنى ذلك حقًا وأبدأ العمل. ومع ذلك، اليوم، في هذه الأمسية الأولى في الغرف المكتملة، قد أسمح لنفسي بالجلوس لأمتلئ بالشوق ولا شيء آخر. أفكاري تتجول بين بيوتكم. قلبي ينبض معلقا في مكان ما في الريح. يديَّ مفتوحتان وفارغتان، مثل وعائي الصدفة التي أُخرجت منها اللؤلؤة. لكن لا تظني أن هذا بؤس، بل هو نوع من الاحتفال الذي يبشر بلطف بدخول الشتاء. أنا ممتن عندما أفكر في كل ذلك.
المخلص لك، راينر ماريا ريلكه
عن مجلة باريس ريفيو