{طعم الأشياء}.. كيف نحول المهنة إلى فن؟

ثقافة 2024/10/14
...

 وداد سلوم

تدور أحداث الفيلم الفرنسي "طعم الأشياء"
(the tested of things في عام 1889، فهو مستوحى من رواية عن حياة الطباخ دودين بوفانت. لكنه ليس فيلماً عادياً عن الطبخ، بل عن فن الطبخ، أقصد عن تلك اللمسة الخاصة، التي تكتشف مواءمة العناصر لبعضها وطرق الطهو المناسبة، بحيث نحصل على مذاق خاص وفريد، وعن فن التقديم ليبدو كل طبق قطعة فنية.ينطلق الفيلم من تلك التقاليد، حيث تجمتع مجموعة من "الذواقة" لتقييم قوائم الطعام، التي يضعها بوفان المسمى نابليون فن الطهي، وينفذها بمساعدة طباخته أوجيني التي تشكل معه ثنائيا، بارع الخبرة والدقة في تنفيذ الوصفات، لا شيء زائدا ولا شيء ناقصا، تلك الدقة التي صنعت أفضل الأطباق دوماً..
وعن تلك المهارة، التي اختزنتها ذاكرة الشعوب الجمعية، بالمذاق والخبرة والقدرة على ابتكار طعوم جديدة ذات نكهات مختلفة، مستفيدة من المعارف العلمية والخبرات المتراكمة، منذ استخدام النار للانتقال من تناول الاطعمة النيئة إلى المطبوخة، في علامة مميزة للتحضير والانتقال من الوحشية إلى الانسانية.
 ليس لأن الطعام هو المعيار، بل لأن علاقة الانسان بالطعام وتذوقه تعكس سلوكاً سيكولوجياً يتناسب طرديا مع المستوى الحضاري للفرد والشعوب. ويصبح الطعام ليس فقط لسد غريزة الجوع بل للمتعة.
 امتلكت كل منطقة ذوقها وفنها الخاصين. فلكل بلد مطبخه الخاص، ولهذا سنرى في الفيلم تعليق الذواقة الفرنسيين على ما قدمه الأمير الذي اشترى قصراً في مونت كارلو.
الذوق المميز قد يكون فطرة عند البعض، هكذا يكتشف بوفانت الشابة بوني، التي أتت لمساعدة مدبرة المنزل فيوليت، لكنها أظهرت حساً ذوقياً رهيباً، فحين تذوقت الحلوى التي أطلقوا عليها اسم حلوى علمية (ألاسكا مخبوزات)، تسألها أوجيني عمَّا أحست به فتقول الفتاة: لقد أردت أن ابكي.
 جسد بوفان ذو اللمسة الفنية بينوا ماجيميل وأما الطباخة أوجيني أدت دورها جوليت بينوش، والتي كانت تفهمه جيداً وتنفذ معه تلك الوصفات الساحرة.
 عاشت أوجيني مع الذواقة الشهير عشرين عاما، وهما ينفذان ويبتكران الجديد المذهل يقول (اكتشاف طبق جديد يجلب الفرحة للإنسانية أكثر من اكتشاف نجم.)
 وربطت بينهما علاقة حب من نوع خاص وهذا كان سر نجاحهما. حب فيه من الانسجام الروحي والتقدير الكثير... تحافظ أوجيني على هذا الحب وترفض الزواج رغم الحاح دودين، فهي تسعى بحسها الفني أن يبقى هذا الحب دون أن تستهلكه العلاقة اليومية في العمل والزواج، وتجعل العلاقة ترتقي بالغريزة إلى فن الاهتمام والعواطف الدائمة الاشتعال. وهنا يأتي قول القديس أوغسطين معبراً:
"السعادة هي الاستمرار بالرغبة فيما لدينا بالفعل. والسؤال كيف نحافظ على تلك الرغبة".
 تصاب أوجيني بمرض يخطفها من الحياة، التي حاولت أن تحافظ على وصفة الألق فيها. وحين يشعر صديقها بأنها مريضة يصر على الزواج بها ويعلنان خبر زواجهما بين الأصدقاء، ثم يقوم بالطبخ لها وحدها، ويقدم لها الطعام كمدعوة وحيدة لديه، وكأنه في امتحان تقييم أمامها. وحين تموت تتركه وحيدا وعاجزا، حتى يبدأ الأصدقاء بمساعدته في البحث عن طباخة جديدة.
بينما يبدأ دودين بتدريب الفتاة بوني على العمل.
حافظ المخرج تران آنه هونغ الفرنسي من أصل فيتنامي، على إيقاع الفيلم البطيء، لكن المشوق، فجعل المشاهد يتذوق الفيلم مشهداً فمشهدا، كأنه يتناول طبقاً مميزا، واستفاض بتصوير تحضير الطعام وطهوه وطرق تقديمه، ولكن بتلك المهارة والبريق المميز لعيون الطباخة أوجيني، فقد جعل المخرج تران المشاهد يقف على هذا الفن العريق، ويتمتع بالمشاهدة لآخر لحظة. كما حافظ على النكهة الأدبية في السيناريو فالحوارات مليئة باللقطات الشاعرية سواء في وصف الأطباق أو المشاهد الأخرى.
لكنه أيضا يظهر حجم الجهد المبذول للحصول على تلك النتيجة الباهرة، إذ كان العمل يستغرق يوماً كاملاً لإعداد قائمة الطعام، ليس فقط الوقت الطويل وإنما الجهد الكبير أيضاً. لقد كانت أوجيني تصل إلى آخر يومها منهكة، وبينما يطلب أصدقاء دودين منها مشاركتهم المائدة كانت تعتذر لأن الصورة المثالية تحتاج بقائها في الخلف (المطبخ) دوماً.
ركز التصوير على حركة الأيدي والوجوه، ليقدم فكرة عن تلك المهارة كيف تولد من الانسجام الكامل في العمل بين الجسد والروح والعطاء الكامل دون تذمر، وفي حب العمل الذي يمنح الابداع.
الفيلم من انتاج 2023 وقد حاز المخرج على جائزة أفضل إخراج في مهرجان كان، وقد اختارته فرنسا لتمثيلها في حفلات
الأوسكار.