حسب الله يحيى
لماذا نقرأ، لماذا نكتب؟
هذا السؤال ينتاب كثرة من القراء والكتاب على حد سواء.
وفي الحد الأدنى يقول القراء، إنهم يقرؤون للمتعة، لكن أية متعة لا يمكن أن تكون مجردة من الجدوى؛ والمتعة بحد ذاتها جدوى.
وكذا الكتابة، يقول عدد من الكتاب، إنها متنفس لهم، من دون هدف ولا رسالة، إلا أن هذا المتنفس ذاته تعبير عن حاجة، وهذه الحاجة قد تحققت عن طريق هذا (المتنفس).
هذه المقدمة التقليدية، لا بد أن ترد إلى أذهاننا ونحن نقرأ رواية (فورور) للروائي نزار عبد الستار.
ولكن لماذا (لا بد).. ولماذا نلزم أنفسنا بـ (لا بد) هذه، ولماذا نؤكد عليها؟
(183) صفحة تختزن أحداث رواية (فورور) وهذا الخزين لابد أن يقول شيئاً، وأن يبوح بما هو مكتوم في ذهنية الروائي..
ونزار عبد الستار، فنان ماهر، كربانٍ يعرف كل الطرق، بوصفه حرفياً من طراز رفيع، وإلا ما كان ليكتب كل هذه الصفحات وهو يلاحق (فورور).
الفرو الثمين الذي يوضع فوق (الكتفين)، والذي انتقل من الأم إلى كتفي (مريم فخر الدين) الممثلة وزوجة الزعيم المصري، وزوجة الشاه. حتى إذا تمت استعادته إلى وحيدة (الأم) التي ماتت وظل قبرها مجهولاً.
المظهر الخارجي للرواية، يبدو وكأن الروائي يبحث ويستقصي عن فرو ثمين، حتى إذا انتهت الرواية بعودته إلى صاحبته، يكون كل شيء قد مات.
حتى الموت نفسه قد مات. أما إذا عمدنا إلى (التأويل) فإن الرواية يمكن أن تكون بمعان – وليس بمعنى واحد وهي أن هذا الـ (فورو) قد يحتمل أن يكون ثروة الوطن التي تمتلكها (الأم/ الجذر)، والتي تتسرب منها هذه الثروة لقاء ثمن أو التزاماً أو (سياسة)- بمعناها التداولي – حتى إذا عادت هذه الثروة ممثلة بـ (فورو) الثمين، حلَّ الموت بوصفه عبثاً فلسفياً وليس خاضعاً للقدر بمعناه الميثولوجي.
وعلى وفق القراءات المتعددة، يمكن للمرء أن يخرج من هذه الرواية بعدة أبعاد، وقد يكون أبعدها عن المنطق، التعامل معها، كما لو أنها رواية متعة كتابية مجردة، أو رغبة في إنشاء منجز من حدث بسيط ومتواضع.. ومثل هذا الفهم، لا بد أن يكون من فهم قارئ ساذج وقراءة عابرة..
ومثل هذا الفنان البارع الذي ينسج أحداث (فورور)، لا يمكن أن يقع في هذا الفهم القاصر والكسول والجاهل، بدليل أن مخيلة الروائي لم تعمد إلى اختيار شخصيات تمتلك المال وحده، وإنما تمتلك السلطة أيضاً، وكل سلطة تبحث عن الوجاهة وعن الإبهار، وعن كل ما هو عجيب وغريب واستثنائي..
إنها قوى سلطوية تريد أن تباهي نفسها من جسد سواها، ومن نبض غيرها، ومن استئصال ما ليس لها حق به.. لتضمه إلى عروشها وغنائمها، وهذا ما نتبين في كثير من السلطات- ولا أقول الأنظمة، لأن النظام/ قانون وهؤلاء وهذه السلطات التي تمتلك الأشياء الباهظة لنفسها والتي تعدها غنيمة، لا يمكن لنا أن نعدها صاحبة نظام.
وعندما تكون النتيجة؛ حقا مستعادا، يجيء هذا الحق متأخراً عن زمانه ومكانه، بمعنى أن ما سلب، يصعب أن يعود إليه ألقه وأهميته وحضوره الأسمى، وذلك بسبب تغير الأحوال، وتغير طبيعة وجدوى امتلاك هذه الثروة التي سلبت أكثر من مرة وبشتى الأساليب.. فبريق هذه الفروة (فورور) قد أفل، حتى أن التراب الذي يفترض أن يضم رفات المالكة الحقيقية لـ (فورور) قد أصبح مجهولاً، بعد أن غُيب اللحد وصار لمكانه مكان لآخر، كما ان هذا اللحد المغيب صار له حارسه الذي يحرس اللاشيء.
استعادة الثروة (فورور) التي انتقلت من الغنى إلى السلطة، إلى التجارة.. وتحول إلى عدم، إلى شيء ليس بذي قيمة.. قيمة عبثية لموت مجاني وحتمية، لا نحصد من خلال وجودها سوى تجريد هذا الكون من أهميته وهامشيته وعبثه الفلسفي الذي تحدث عنه (البير كامو)، وحدّد حدوده تشاؤم (شوبنهاور) والذي لم يجد ثمة أمل لبلد بات مسلوب الإرادة بعد موته.. موته المجهول.. والذي يفترض أن نبحث عنه من جديد لنبدأ في محو دوائر متعددة من الفراغ ومن المجهول كذلك.