تقنيات السَّرد في رواية شكّ البنت لأنيسة عبود
فاطمة حيدر العطاالله
تعدُّ رواية (شكّ البنت ) رواية واقعية تؤرّخ فترة المرحلة الجامعية وما تخللها من أحداث ، وترتكز الرواية على سرد الأحداث ووصفٍ يطال كل فصولها ، وصف السكن الجامعي وصف الجامعة ، وصف الصديقات ، قصص الحب ، الأصدقاء ، وصف المشاعر ووصف القرية . وقد استمدتْ الكاتبة مادتها من الواقع المعيش بكلِّ ما يحتوي وتفاعلت معه وشكّلتْ رؤيتها في قالب روائي سردي يجعلنا نضع الضوء عند أهم تقنيات السرد التي استعملتها الكاتبة بالإضافة إلى الوقوف عند لغة السرد في الرواية .
وبالحديث عن لغة السرد الروائي فإننا نجده في رواية شكّ البنت قائماً على التماسك والترابط بكل ما يحتوي من طاقات تعبيرية وتأثيرية مع السياق الروائي ؛ فالرواية قائمة على تعدد الشخصيات وتعدد السياقات فمن الطبيعي أن تكون مستويات التعبير في الرواية متعددة مما يجعل العمل أكثر صدقاً وواقعيةً فقد جاءت لغة الشخصيات متوازنة مع المستوى الثقافي والاجتماعي لكلِّ شخصية : فنرى الكاتبة تستخدم اللغة الدارجة المحكيّة أحياناً كما على لسان شخصياتها مثل شخصية فاتن : (لا بالله يا خيّا ..آني ما أغني ) وعلى لسان ماريا: ( خلص ..شو عمرك ماشفت قصيدة ؟ ) وعلى لسان روعة ( إي افردها يا أبو سمرة ) وعلى لسان سامر (يلعن أبو الأساتذة) . وقد حاكت لغة السرد هذه الشخصيات في سنها ووضعها النفسي ومستواها الاجتماعي والثقافي إضافة إلى أنّها أوصلت الحالة الحقيقية للموقف الذي جاءت فيه .ومما يلفت النظر هو تماهي لغة الكاتبة بين المحكي ولغة السرد العادية وهذا يدل ُّعلى اندماجها الاجتماعي مع لغة بيئتها ومجتمعها المحيط . وفي محيط آخر نرى أنَّ لغة السرد اتسمت بالبساطة والرقة فأخذت مستوى ينفذ إلى روح القارئ دون أن تقف عند إطار اللغة فقط . فقد كان ميلها إلى استخدام لغة فصيحة سليمة سردية بسيطة تحافظ فيها على اللغة وتقترب فيها من فئات القراء المختلفة لذا نراها تميل إلى استخدام العاميّ وتراكيب بسيطة فتتماهى مع لغة الشخوص ، فنراها في خطاب روائي تقول : ( قلت لنفسي سرّاً : والله صحيح يصيرون حذاء في قدم الواحدة منا حتّى تصدقهم ... وعندما تصدقهم تكون الطامة الكبرى ...أشعر أن رامية أصابتني برصاصة في صدري تذكرتُ الوغد مهدي الذي لم يترك وسيلة ليلتقي بي . وها أنا أجترّ خيبتي ولا أعرف كيف أعثر عليه لأسأله : لماذا فعلتَ ذلك ؟ ) فالتراكيب والمفردات السابقة تترد على ألسنة العامة إلى درجة أن المتكلم يكاد يظن ُّ من ذلك التماهي أن التي تتكلم هي الكاتبة وليس ماريا . مما يدل على أن ّلغة السرد عند أنيسة عبود ذات صبغة صادقة وخاصة ، تبتعد عن الغموض وتميل للبساطة والسلاسة ، لا تبتعد عن لغة الرواية وتكوينتها . وبالانتقال إلى التقنيات السردية في رواية “شك البنت” فإننا نجد الكاتبة تجنح لاستخدام تقنيات مختلفة تنطوي على الإثارة في عرض صراع الشخصيات وتناقضها أحياناً وإضاءة الجوانب المسكوت عنها في النصّ ، والتركيز على الزمن الخارجي والزمن السردي الذي يمثل الزمن النفسي الذي تم فيه الحدث الروائي كما تحكيه الكاتبة ،وقد عملت الكاتبة أيضاً على توضيح بعض الشخصيات وتأجيل بعضها الآخر إلى حديث آخر ومن أبرز التقنيات السردية التي اعتمدتها الكاتبة هو السرد بضمير الغائب الذي منح الكاتبة الاستطاعة للكشف عن جوانب الشخصيات ، وجعل القارئ في حالة وعي بالشخصيات تحدد مداه الكاتبة وتخفي بعضه لتضع في قلب القارئ التشويق والتخمين والالتحام بالعمل الروائي : (لم تكن زينة قد أخذت الثانوية بعدْ ... كانت صغيرة وجميلة وتموت في شاب اسمه زياد ..لم يكن البريد متاحاً لهما ... ولا كان الأصدقاء محطَّ ثقة ) ( لم يتهور زياد ولم يودّع زينة عندما سافر إلى دمشق ليدرس . لقد تعمّد ذلك كخطة أولى للنسيان ، حزنت من تصرفه كان يجب أن يودعها ويقول لها الحقيقة حتى لا تبقى في قهر الانتظار المرّ ) .
وتقنيةٌ أخرى نجدها في رواية شك البنت وهي تقنية الاسترجاع وهي من أكثر التقنيات استخداماً في السرد الروائي ففيها يستحضر الروائي الأحداث واقعةً في الماضي لتفسر الزمن الحاضر في الرواية ، وتعمل على سدّ فجوات السرد في العمل الروائي ، وتربط بين الأحداث المتباعدة وملء فراغ غاب عن الكاتبة خلال سرد الأحداث مما يؤدي استدعاؤه ثانية إلى تثبيته في الذاكرة ، ونرى ذلك في حديث ماريا عن مهدي واستذكارها له في كل مقام ، تعيدنا إليه في كل موقف تعيشه بعد لقائها مع مهدي الذي سرق منها قبلة وعناقاً واختفى كونه العاشق وخذلها بردَّات فعله المناقضة للموقف العاطفي المتوقع : ففي كل مرة تتعرض فيه شخصية ماريا للإعجاب من شباب الجامعة تستذكر مهدي وما فعل وتتمنى أن يكون موجوداً بدلاً من الشخص الذي يتودد إليها . مهدي يشكل عنصر الاسترجاع في الرواية الذي يعيدنا إليه دائماً . ولابدّ من ذكر عنصر الاستباق عندما نتحدث عن التقنيات السردية ، والاستباق تقنية يلجأ إليها الكاتب لذكر حدث قبل وقوعه أي ينقلنا بوثبة زمنية إلى أحداث ستحصل أو ستكون حاصلة بعد وقت ما ؛ ونجد ذلك مثلاً على لسان بطلة الرواية (ماريا) وهي تقول في أول الفصل عن مهدي قبل أن نعرف من هو مهدي وماذا فعل : (هو الذي هجرني لم يقل لي أيّ شيءٍ أبداً . غابَ فجأة وغيّر رقمه ). وننتقل إلى تقنية أخرى وهي تقنية الحذف التي يلجأ إليها الكاتب لتخطي أحداث والانتقال إلى أخرى دون تحديد للفترة الزمنية ويفهم ذلك من تعاقب الحدث الروائي وتسلسله الزمني ، ويُسمى الحذف كما تذكر الدكتورة يمنى العيد “ القفز “ وهو أن يكتفي الروائي بإخبارنا أن سنواتٍ أو أشهر مرت دون أن يحكي عن أمور وقعت في تلك السنوات أو الأشهر، ونلمح هذا في رواية شك البنت عندما ذهبت راميا إلى القرية في الصيف وعادت إلى الجامعة مجدداً : ( عدتُ إلى الجامعة ) وواصلت السرد دون أن نعلم ماذا حصل في تلك الأشهر من أحداث مهمّة . أمّا التقنية الأهم والتي لا بدّ من ذكرها ضمن تقنيات السرد الروائي فهي الوصف ، العمود البلاغي الذي تقوم عليه لغة السرد ويعتمد عليها الكاتب لوصف الشخصيات والأماكن والأحداث وهو يعمل على الحدّ من نمو حركة الزمن الحكائي في الرواية فيترك المجال للروائي ليقدم المزيد من التفصيل في الأحداث في أدقّ صورة .وإنّ علاقة السرد بالوصف علاقة حتمية وهي تلامس معظم عناصر العمل الروائي ، وكل وصف يتناسب مع مقام الشخصية وصفاتها وعملها وشكلها ونراه في الرواية في كثير من المواضع ، مثلاً على لسان ماريا في وصف زيتون أو محمد الحرامي : ( كان محمد ضئيل الجسم وكان متفوقاً في مدرسته وحين أخذ الإعدادية كان الأول على مدرسة القرية ، لم يكن محمد من سكان القرية لقد وُلد في دمشق وعاش فيها طفولته الأولى )
وفي ملمح آخر نذكر المونولوج أو (الحديث الداخلي ) كونه تقنية ذكية تعتمدها الكاتبة أحياناً لتناجي ذاتها وتحاورها حول موقف نفسي معين، وتمعن في أبعاده وانعكاساته ،أو التأمل فيه كقول ماريا في حديثها عن رامية بعد موقف بينهما : ( كأن رامية لا تعرف أنها سبب كل هذا الجنون ... لقد داست على الأيام التي كانت بينا ، ورمت بكل أسراري وراءها لماذا خدعتني لا أعرف ؟ إننا ندرس الفرع ذاته نجحنا معاً وتفوقنا معاً في الفترة الأخيرة صارت تتعامل معي بفوقية لاتقبل ضيافتي إلا إذا دفعت ، هذا يزعجني ويرهق كرامتي فلماذا تعاملني بهذه الفوقية المتعالية أيكون منبتها البرجوازي ظهر فجأة ؟ )
وبذلك نرى أنَّ اعتماد الكاتبة على هذه التقنيات السردية أثرى العمل الروائي وساهم في تعميق رؤيتها في تقديم الشخصيات بوعيها الثقافي والاجتماعي ووصفها وصفاً ممتعاً خالياً من الحشو الفارغ ؛ ليكتمل العمل في صورة سردية ثرية .