د. نادية هناوي
يؤكد منظرو السرد غير الطبيعي أهمية السيناريوهات في صنع معنى محدد، ولكي يظفر القارئ بهذا المعنى، عليه أن يقرأ النص بكل ما لديه من معرفة، ويبني افتراضات على وفق ما يحتويه النص من إشارات وانطباعات. وقد اتخذ المنظر الألماني جان البر من قصة (تمنّى أن تكون هندياً أحمر) لكافكا مثالاً للكيفية التي بها يتقاطع منظور السارد من ناحية الحركة والتصوير مع حركة المسرود/ الحصان تشابكاً أو إسقاطاً أو رؤية. وإذ لا وجود لهندي أحمر في السرد، يكون التناقض قائماً بين التحرك كإنسان والتحرك كحيوان من خلال ثلاث محطات أو انتقالات؛ أولاً الرغبة وثانياً الركوب وثالثاً الطيران وبقوة كامنة غير واقعية.
واللاموثوقية بالنسبة للقارئ تكمن في السارد وشخصياته التي تقدم رؤية غير كافية عن المواقف التي تمر بها مما يجعلها غير جديرة بثقته، تثير شكوكه وتفضي به إلى عدم التصديق بيد أنَّ هذا كله يتبدد على وفق منظور يتشاطر فيه المؤلف والسارد من جهة والسارد والشخصية من جهة أخرى ولا فرق إن كان السارد بضمير الغائب أو كان مستعيراً لسانها متكلماً بضمير الأنا.
وإذ يتحدث المنظرون الكلاسيكيون عن سرد واع بذاته فيه للشخصية سلطة، وقد يناقشون سلطة السارد حين تكون مسروداته خارجة عن هذه السلطة غير أنهم لا يفترضون أن تكون في هذه السلطة مشكلة انفصال من يتكلم عن الذي يرى من ناحية تقديم منظور يتم التركيز فيه على الأحداث وطريقة تقديمها بخيالية، تغدو معها سلطة الشخصية وهمية. ولأنَّ الوهم في السرد غير الطبيعي يتركز منظوره في الأقوال وليس الأفعال، يتجسد الفاعل السردي في أي صورة وبأشكال شتى لتظل الأفعال من صنع المؤلف؛ فهو الذي بيده اللعبة السردية والعارف كيفيات إضفاء المنطقية على الأفعال التي تنقلب إلى أقوال تجري على لسان من هو غير عاقل ولا آدمي.
وما قلب المرأى من صيغة فعلية غير ممكنة ولا واعية إلى صيغة محتملة التصديق والوعي سوى طريق نحو تحول الوهم إلى تصديق تجاه من يرى وليس من يتكلم فيغدو من يرى بوعي داخل السرد وخارجه هو نفسه من يتكلم بلا وعي (الشخصية غير العاقلة أو غير الآدمية) وتصبح الفواعل غير العاقلة هي مصدر المعارف في السرد، تقدمها كثمرة لتجاربها ورغباتها، ممتلكة منظورها الخاص وبكامل قواها العقلية مع أنها بلا قوى ولا سلطة ولا عقل.
من هنا يتجلى دور القارئ في إتمام السرد غير الطبيعي وذلك بمشاركته في مهمة فهم التخييل وإدراك خياليته. والنص لا يحيا إلا بالقارئ الذي بقراءته للنص يمنحه وجوداً وحضوراً بعينين تتلقيان وبوعي يفسر ويحلل. ولقد عرفت قصص (حكايات كانتربري) لتشوسر توظيف شخصيات آدمية حية فيها الفارس ومالك الأرض والطبيب والراهب والتاجر والعالم والفيلسوف والمحامي ورجل أملاك وغيرهم، بيد أنَّ أفعالها غير معقولة ولا آدمية وهو ما يجذب القارئ ويدفعه إلى مواصلة التلقي حتى إذا صدمته مفارقة ما، فسرها بما يملكه من خيال، به يشارك السارد قصته من الناحية القولية، واقعاً في شرك الإيهام من الناحية الفعلية التي فاعلها المؤلف بوصفه هو مخترع الحكاية وصانعها. ومن تلك الحكايات حكاية البحار الذي أسند إليه المؤلف/ السارد أوصافاً وأفعالاً غير معقولة، وقد يتدخل تشوسر في أحداث سرده غير الطبيعي محاولا إيهام قرائه أنَّ ما يقوله صدق، وأنَّ ما يقلب اللامعقول إلى معقول هو تصديق الذي يُقال؛ فالقص ليس سوى أقوال.
ومن القصص الكلاسيكية التي فيها يكتمل المرأى بالقارئ قصة (وردة لإيميلي) 1930 لوليم فوكنر وفيها (إيميلي) تنطوي على سر عجيب يجعلها من ناحية فاعلاً سردياً حياً ومن ناحية أخرى فاعلاً سردياً ميتاً. وما يعمق فنية هذه القصة - وتعد من أشهر قصص فوكنر وأكثرها نشراً وترجمة- أنَّ السارد بضمير الغائب لا يكشف للمسرود له أي خيط يمكن أن يصل به إلى معرفة حقيقة إيميلي.
وتبدأ القصة من النهاية وقد ماتت إيميلي وشيعها أهل البلدة (ها قد انضمت مس إيميلي إلى أصحاب تلك الأسماء المهيبة في المقبرة المحتشدة بأشجار السدر بين أضرحة جنود الاتحاد والكونفدرالية المجهولين الذين سقطوا في معركة جيفرسون) وفي أثناء استرجاع قصة حياة إيميلي وما مرت به من أحداث تبدو إيميلي جثة لكنها تؤدي ما كانت تؤديه من أفعال حين كانت حية. وبإشارات ثلاث وضعها السارد داخل النص، تدفع القارئ نحو التفكير، وهي:
1) وصف السارد لإيميلي وهي تقابل موظفي الضرائب كجثة جامدة باللون الأسود الذي اكتنفها والصمت وركود الحركة وبرودة الوقفة وجفاف المحيا (وقفوا حين دخلت الغرفة امرأة قصيرة سمينة مجللة بالسواد ويتدلى عند خاصرتها سلسال ذهبي رفيع ثم يختفي داخل حزامها وتستند إلى عكاز من الأبنوس طعم مقبضة بالذهب.. بدت منتفخة مثل جسد عمّر طويلاً في مياه راكدة ومن هنا شحوب وجهها.. أما عيناها الغائرتان في تغضنات وجهها السمينة فقد بدتا أشبه بقطعتين صغيرتين من الفحم مضغوطتين داخل قطعة عجين وهما تنتقلان بين وجوه الزوار وهم يبلغونها برسالتهم الشفهية. لم تدعهم إلى الجلوس فقد وقفت عند الباب وأصغت بصمت ثم ساد صمت جاء صوتها جافاً بارداً).
2) نحول إيميلي التي صارت مثل حارس المنارة وكذلك الشر الذي صار ملازماً لها منذ أن ابتاعت سم الفئران (وظلت على نحولها بل أكثر نحولاً من السابق مع عينين سوداوين باردتين متغطرستين في وجه مشدود عند الصدغين وعند محجري العينين مثلما يتخيل المرء أنه يفترض أن يبدو وجه حارس منارة).
3) ترهل إيميلي وشعرها الرمادي القاتم (كبرت بسرعة شديدة) وماتت لا كامرأة بل كجثة تعفنت (في إحدى غرف الطابق السفلي في سرير ثقيل من خشب الجوز له ستارة سقط رأسها الرمادي على مخدة مصفرة ومتعفنة بفعل الزمن وغياب الشمس).
وكانت الناقدة الفرنسية شلوميت ريمون كنعان قد رتبت أحداث هذه القصة ترتيباً خاصاً وأعادت تشييدها من جديد، مبتدئة من الرائحة الغريبة المرتبطة بالجثة الممددة في الطابق العلوي منذ أربعين سنة التي هي ليست لفأرة أو ثعبان، مشككة بذلك في حقيقة إيميلي وخادمها. وبهذه القراءة تتحول القصة من لا طبيعية السرد إلى طبيعيته بوجود قارئ مفسر يفكك الشفرات ويعيد قراءتها.