تتعدّد الأصواتُ في سوق الجواري

ثقافة 2024/10/16
...

  د.صباح التميمي

ثمة حدة غنائية ترافق "العمود" - بنيويا رؤيويا تاريخياً- لم يتمكن من كسر صلادتها، على الرغم من تمرحلاته الفنية التي أنجزتها نسخه المحدثة منذ التسعينيات، فقد بقيت الذاتية، والصوت المنفرد، وصداه الذي يتردد بقوة في زوايا النص، هو الذي يتحكّم بمعمار القصيدة كلها، ومنه يرتفع منسوب "الأنا" بشكل مفرط، وتكون الذات مركز الثقل الشعري في القصيدة.

وهي ظاهرة شاعت عند كثير من شعراء العمود التسعيني، وكأن الشاعر لم يجد في تلك الحقبة الشعرية المختنقة، إلا نفسه يُنفّس بها ضيقه وضيق الزمان والمكان من حوله، فكان يصيح ويرتدّ الصدى عليه، ولم ينجح في أن يُدخل "الآخر" - سردياً درامياً - في اللعبة الشعرية كي يشاركه همه ويقترح حلولاً لمشاكله.. هذا التفاقم الذاتي قيّد من حركية القصيدة في السياقات الشعبوية، وجعلها تنطوي على ذاتها بانكفاءة ارتدادية إلى عوالمها الداخلية، ما صنع طوابير من القصائد الفردانية المنطوية على نفسها، والتي لم تكن تلامس الآخر، فبدأ بالهروب نحو مناطق أكثر انفتاحا.. كقصيدة النثر والسرديات.
ما يصنعه أجود مجبل في قصيدة "في سُوقِ الجواري" من شعرية خلط فاعلة، وتكسير لفردانية الغنائية العمودية، هو مغامرة ناجحة للهروب بالعمود من سلطة الذات، مستعيناً بتقنية "تعدد الأصوات" التي ترفع نسبة الدرامية في القصيدة، ويختفي معها صوت الشاعر بين الأصوات، متحوّلاً إلى "راوٍ عليم" مكتفياً بالتصوير الفوتوغرافي الفوقي بلا تدخل مباشر، ولا تحكم بأبطال القصيدة، بعد أن كان - في الغنائيات الصارخة- بطلها الأوحد.
إن قتل "البطل الأوحد" في العمود علامة تحديث ناجحة، اكتسبها العمود، من حداثة التفعيلة، على أن حضورها في العمود –برأيي- أكثر حراجة وصعوبة، لأن الشاعر العمودي اعتاد ضجيج ذاته، وصداها يرن في كل نصوصه، ومن هنا صار تعدد الأصوات حالة صحية لايملك التحكّم بها إلا الشاعر الفحل، غير أن هذه الفحولة، ليست كفحولة الشاعر الغنائي، بل هي درامية، تجعل من أدرمة العمود وسيلة لمعالجة رؤى الآخر، ما جعل النص العمودي معها أكثر مرونة واستعدادًا للدخول في عوالم الآخر، بعد حضوره ببنية جديدة لم تعهدها الذاكرة الجمعية كثيرا.
في قصيدة "في سُوقِ الجواري" ثمة حركة لشخصيات تمثّل لاعبين مركزيين في تصعيد الحدث وصولاً إلى العقدة والحل، تبدأ القصيدة بمدخل مشهدي زماني- وصفي يمثله مطلعها: "مِنْ بَعدِ لَيلَةٍ خُرافيَّةٍ/ عانَقَ فيها أنجُمًا حافيةْ".
 تنتقل بعد المطلع نقلةً درامية مهمّة بصوت النخّاس وندائه وهو يسلّع بضاعته الفتيّة للبيع ويرغّب الزبائن، وتبدأ هذه الوحدة بالبيت: " نَخّاسُهُنَّ جاءَ مُستَبشِرًا/ وهوَ يَقُودُهُنَّ كالماشيةْ".
ويستحوذ هذا الصوت على الوحدة الثانية من القصيدة، فالقصيدة –عندي- تتوزعها ثلاث وحدات. الأولى سرد - وصفية، والثانية وحدة وصف درامية سردية يهيمن فيها صوت النخّاس، والثالثة وصف درامية سردية أيضاً، يتوزعها صوتان.. صوت الشرطة "السلطة" وصوت الشاعر "المتمرّد"، وهكذا في خضم هذا التصاعد الدرامي تختفي ذات الشاعر، خلف تعدّد الأصوات، متخذة من موقع "الشاعر- الراوي المحايد" موقعاً استشرافياً كاشفاً.