رسالة تحذيريَّة لإدانة الحرب

ثقافة 2024/10/17
...

  د. كريم شغيدل

حرفياً نحن مع أي عمل أدبي أو فني يعالج موضوعة آثار الحروب وتبعاتها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، وقد شكلت موضوعة ما بعد الحرب سمة مميزة للمسرح العراقي منذ تسعينيات القرن المنصرم، وتندرج المسرحية الأخيرة للكاتب والمخرج د. مناضل داوود "قطار بصرة- لندن" ضمن هذا التوصيف، ومن هذه النقطة بالذات سننطلق في قراءة هذا العرض.

ربما يكون السياق الثقافي العام قد تجاوز آثار حربي الخليج المعروفتين، لا سيما بعد الغزو الأميركي في نيسان 2003، إلى آثار أكثر مساساً بحاضر المجتمع، ونعني تفشي ظاهرة العنف التي ينبغي تفكيك البنية الثقافية للمجتمع في ضوئها، فمن عمليات العنف العسكري للأمريكان إلى العنف الطائفي والإرهاب عموماً، فهل هذا يعني إن موضوعة النص متأخرة؟ لا نجزم بذلك طبعاً، لكننا نحاول تتبع مسار السياق الثقافي لهكذا نصوص، ذلك أن موضوعة الحرب موضوعة إنسانية- عالمية لم تغادرها الثقافة العالمية حتى يومنا هذا، ولم تغلق ملفاتها التاريخية والآنية، وتشترك الغالبية العظمى من تلك النتاجات بالرسالة التحذيرية، وهذا ما أراد إيصاله مناضل داوود، وعلى الرغم من أن النص كتب في مرحلة سابقة، إلا أن ذلك لا يحول دون تلقيه حالياً أو في المستقبل، فعلى مستوى السياق الثقافي للتلقي العام نرى أننا الآن بحاجة لما يشغل حيزاً في السيرورة التاريخية والثقافية للمجتمع وسط طوفان من التجاذب الاتصالي الصوري و"السوشل ميديا" والسينما واشتغالات الموسيقى المرئية والجسد.  الفصام وانشطار الشخصية وفقدان الذاكرة وتشابه الشخصيات والتذكر والنسيان والاسترجاع والمصادفة واكتشاف الآخر والبحث عن الذات والآخر، كلها ثيمات مكررة، ليست جديدة في نصوص ما بعد الحرب، وقد عالجها الكثير من الكتاب بصيغ وأشكال ورؤى مختلفة، فما الذي يميز نص مناضل داوود؟ قد تكون المعالجة المكانية الصريحة "بصرة- لندن- سنجار/ جنوب- شمال/ منفى- وطن" والمعالجة الهوياتية "مسلم- مسيحي" هي الثيمة العمودية التي كسرت أفقية النص الذي لم ينجُ من الانشاء السردي، فنحن أمام حدث يعتمد على الاسترجاع المتشعب والتفاصيل الحياتية، ويتطلب الكثير من الاختزال والكثافة الدلالية واللغوية، لكي يكون محكماً ومركزاً دراميا، ذلك أن الكتابة للمسرح تعتمد بنائياً وجمالياً ودلالياً على الجملة الدرامية المكثفة، الجملة البرقية التي تولد جملة برقية مقابلة وبنسيج تصاعدي- بحسب التقسيم الأرسطي، لبلوغ الذروة، ونجد أن مناضل داوود المخرج قد انحاز لنصه كاتباً، وخضع لمنطوقه تفصيلياً على حساب بنية العرض بمعطياتها المتجاورة والمنتجة لمنظومة ينبغي أن تكون متكاملة ومنسجمة ومتناغمة، فاللغة السردية أفقدت النص الكثير من الالتماعات التعبيرية، ما لم نقل أوقعت بعض المشاهد بالخطابة التقريرية.

لقد شكل الفضاء البصري علامة فارقة، تكويناً وألواناً، إذ هيمنت علامة السكك المتقاطعة لتجسيد شكل تعبيري ليس للإيحاء بالمكان الواقعي "محطة القطار" وإنما للمسار الدراماتيكي للشخصيات وتقاطعاتها النفسية وتاريخها الاجتماعي المشترك والمنقطع والمتقاطع والمشتبك، وفي الوقت ذاته شكلت مقطعاً عرضياً من مكان متحرك "قطار" من خلال الكراسي الثلاثة، وقد جاءت هذه المنظومة البصرية الخلفية بمنتهى الاقتصاد الجمالي والتعبيري، لتشكل بيئة عرض مقنعة في اختزالها وأناقتها ومدلولها، إلا أنها لم يتم تشغيلها بمساحة أوسع مما كانت عليه، وبسبب ميل مناضل المخرج لنص مناضل الكاتب، بقي هذا الفضاء البصري أسير وظيفته الديكورية، باستثناء مشاهد خاطفة، بينما تركز الاشتغال على علامات وظيفية أخرى "طاولة، كرسي عدد/2، حاسوب"، والتي كان استخدامها مرتبكاً نوعاً ما، إذ لم يتم تشغيلها بانسيابية من خلالها وجودها الدائم بوصفها عنصراً من عناصر الفضاء، وإنما يتم إدخالها وإخراجها بطريقة تقليدية لم تنسجم ومنظومة العرض، وقد شكلت الألوان "الرمادي- الأحمر- الأبيض" هارموني بصرياً منح العرض جمالية تكوينية بين الديكور وقطع الأثاث وملابس الممثلين وتقاطاعات الإضاءة، وحقق إيحاءات التضاد والتشظي مثلما عبر رمزياً عن طبيعة الشخصيات، ولعبت منظومة الضوء دوراً فاعلاً في رسم بيئة جمالية معمقة لمناخ العرض، سواء في تتبع مسارات الحركة أو التعامد مع الكتل والعلامات المادية ووجوه الممثلين، وكانت الخلفية الموسيقية للمايسترو علي خصاف بمثابة الظهير التعبيري للتحولات النفسية، إلى جانب توظيف الكمان في تجسيد العلامة الصوتية لقطارات لندن، وكانت الفواصل والخلفيات الوترية والايقاعية مكملة نفسياً للإيقاع النفسي للشخصيات.

في الأداء التمثيلي هناك طريقتان رئيستان، هما الطريقة التجسيدية والطريقة التعبيرية، فأين نضع أداء كل من محمد هاشم ورضاب أحمد وفاطمة فراس؟ يشفع لشخصية الحلم أو الذاكرة التي أريد لها أن تكون شبحية أنها تعبيرية خالصة، وقد اجتهدت الفنانة الشابة فاطمة فراس بأدائها التعبيري المفرغ من الصوت أو البنية اللغوية، إلا في مشاهد طفيفة محدودة، وقد رسم لها المخرج جغرافية ظلية تابعة لم تفصح عن كامل امكاناتها، وقد جاء أداء الشخصيتين الرئيستين متناقضاً تماماً، ففي الوقت الذي كان فيه محمد هاشم تجسيدياً يسعى لتشغيل منظومته الحسية لتقمص الشخصية، كانت رضاب أحمد تتأرجح بين التعبيرية التي تحاول من خلالها الانسجام مع منظومة العرض وبين الانجرار خلف الأداء التجسيدي للبطل، ويبدو أن الأداء الدرامي التلفزيوني قد أغرى محمد هاشم على حساب التعبيرية المسرحية التي عرفناه بها منذ بداياته، ومع ذلك لا يزال يتمتع بحضور مميز على الخشبة، ولو تجاوزنا بعض البكائيات والصراخ غير المبرر مع العناية بالانسجام التعبيري بين الممثلين، لكان الأداء أفضل، ولكانت صورة العرض أكثر تأثيراً، فنحن أمام ممثل ساحر ومحترف متمرس محمد هاشم، وممثلة تعد بالكثير ولها حضور ومتمكنة من أدواتها رضاب أحمد، ولا تقل عنها شأناً زميلتها الشابة فاطمة فراس.

يبقى هذا العرض رسالة تحذيرية إنسانية واضحة لإدانة الحروب والكشف عن بشاعاتها وآثارها المزرية المدمرة لكينونة الإنسان، الذي ينبغي أن تكون تضحياته وكفاحه من أجل حياة ممكنة وقائمة على الجمال 

والحب، لا أن يعيش أعزل مكرهاً على المنافي هارباً من واقعه ووطنه الذي فقد فيه كل ما يملك ويحب بسبب الحرب.